إن لكل عصر خطابه، ولكل فئة من فئات البشر خطابا يتناسب مع سيكولوجيات المجتمع الذي تعيشه، سواء من الناحية الفكرية أو العقائدية؛ ولذا -في هذه الحقبة الحرجة من حقب التاريخ المعاصر- كان لزاما علينا تتبع مجريات التغيرات الفكرية والسيكولوجية والذهنية التي تتلقى الخطاب، بجميع مراحلها، وألا نفرض نحن ذواتنا وأفكارنا بآليات خطاب كانت تتناسب وزمن مضى، وهنا تكمن المشكلة! أصبح الخطاب اليوم في مأزق نتاج تلك "الشوفونية" الفكرية على جميع المستويات وتيبس الدماغ والذهن والفكر واستحالت المرونة بين المرسل والمتلقي، فلا نجد إلا مرسلا متغطرسا يلوح بيده عاليا ويقول من لا يعجبه خطابي فليذهب! ومتلقيا دأب على كسر أي "كاريزما" واحتقار كل الأفكار، وتتبع ثقافة سمعية ملتقطة من هنا أو من هناك بدون عمق فكري أو تحليل أو تفسير! فأين يكمن المسلك لهذه الإشكالية التي يتوجب فيها التلاقي في الخطاب وتقبل الحوار بشكل صحي وعميق؟ وإني لأجزم أن هذه الصراعات الفكرية التي تزم مجتمعاتنا زمّاً ليست سوى أزمة خطاب على أي حال، ومن هنا كان لزاما علينا النظر في أمر الوجدان بين العلم والأدب. ولقد شغلتني هذه المشكلة منذ تسعينات القرن المنصرم، فأنشأت نظرية (البعد الخامس) وهي تعني بالتلقي في الدرجة الأولى، إلا أنها كانت تنصب على التلقي المسرحي بشكل كبير، ولكن في ضوء توسع مشكلة الخطاب، وجب علينا إمعان النظر في كيفية تجديد الخطاب النقدي، بل الخطاب على كل مستوياته سواء كان أدبيا أم دعويا أم فلسفيا أم نقديا، بمعنى الخطاب بجميع مدارجه. ومن هنا بدأت في البحث متكئة على ما وصلت إليه في نظرية البعد الخامس، إلا أنني ذهبت في أن الوجدان هو مهبط الرسالة والخطاب، وحتما علينا السيطرة على الوجدان في الخطاب، فذهبت إلى أبعد من كل ذلك وهو مراجعة كبار العلماء في السؤال عن الوجدان ومكمنه وتفاعله لكي يمكننا الدخول إليه بما يسمى (نظرية التسرب الانفعالي).

ومن هؤلاء العلماء الدكتور أحمد أبو العزايم وهو رئيس رابطة العلماء النفسيين في العالم وغيره من العلماء والمراجع حتى تبين لي أن الوجدان في الرأس! وأنه قلب المخ البشري وهو في تكوينه كما اللقيمة! وهو مكان العاطفة من الحب والكره واللذة والكدر وتصل إليه الأغذية من الحواس الخمس، ولذا كان لزاما علينا تغذية الوجدان في الخطاب بما يترك اللذة، أو ما يسمى بالمتعة لكي يتم أسر لبِّ المتلقي وتقبله الخطاب. فالوجدان في نهاية المطاف هو المحطة الكبرى في هذا البعد الخفي الذي لم تشر إليه أيٌّ من الأبعاد الأربعة في الفنون، بل إنه هو العامل المشترك بين هذه الأبعاد وهو المهبط الروحي لها جميعا، إلا أن أحدا لم ينظر إليه في التلقي على الإطلاق. فيقول أبو العزايم عن الوجدان: "الجسد له قلب والمخ له قلب، وهذا القلب له عقل وقلب المخ هو الوجدان" ثم يقول إنه يتكون من:

الأميجدالا (Aomajaddala) وحجمها1سم × 1سم وهي مكان الوجدان. فيها الحب والكراهية، وهي مركز التحكم في المخ وأكبر تأثير بها يكون عند المراهقين، ولذلك ينسحبون وراء أي خطاب ممنهج ومتوجه للوجدان؛ ولذلك نرى اندفاع المراهقين وراء أي خطاب، وهي الشريحة التي يجب أن نكون أشد حرصا على مصادر تلقيها، وأيضا نجدهم يندفعون خلف الأفكار بعامة مهما كانت بغيتها!

ثم يواصل أبو العزايم فيقول إن "اللمبك سيستم"The MPC System أو النظام الحوفي الواقع إلى جانب الأميجدالا هو مركز المتعة، فتأتى لنا الربط بين المتعة وعملية التلقي التي إذا ما صبت في الوجدان كان الخطاب ناجحا ومؤثرا، ولقد استعرضنا رسالة ماجستير للباحثة صافية القحطاني وما وصلت إليه في تأثير المدح في القرآن والسنة على المتلقي في الدعوة، وهو ما يعزز رؤيتنا هذه، ولذلك كان ما يسمى بالتسرب الانفعالي في الخطاب، وعليه يتوجب:

1- استبعاد المنصات في الخطاب فإنها تعمل على ما يسمى بالمسافة الجمالية التي تحدّ من توحد المتلقي مع المرسل، فخير الخطابات التي تصل إلى الوجدان هي تلك القديمة التي كانت تأخذ شكل الحلقات؛ لأنها تعمل على الحميمية وعدم فصل النخبة عن العامة (التوحد في الخطاب).

2- الاعتماد على العقائد في الخطاب لأن العقيدة هي ما يسرع بتسرب الانفعال، فالإنسان قد فطر على العقيدة أيا كان نوعها وهي ما تجلب له المتعة.

3- الاعتماد على إثارة الخيال ولنا في القرآن الكريم والسنة النبوية خير قدوة بأنهما كانا يعتمدان على القصص، فإثارة الخيال تجلب المتعة ومن ثم يتم الاسترخاء والتقبل والوصول إلى الوجدان، فمركز المتعة هو المجاور للوجدان والملازم له في تركيبه العلمي وبالتالي هو مفتاحه الأول. فالمتعة هي ما تجعل الخطاب مقبولا ومستساغا، ولكي نجعل الخطاب يحمل قدرا من الكاريزما ويحمل الجماهيرية فيجب أن يحمل المتعة، والخطاب بطبيعة الحال نتاج الإصغاء، فخطاب بلا إصغاء لا حاجة لنا به، ولكي نجعل الخطاب فعالا وحاقنا تحت الجلد فلا بد من الإصغاء الذي تترتب عليه المتعة، وبالتالي وجدت أمامنا مجموعة من الخيوط المعقدة مرتكزاتها هي (الإحساس، التعاطف، الخيال والتخيل، المتعة)، فهل حان الوقت للنظر في كيفية الوصول إلى الوجدان، حينها يتسرب الخطاب إلى العقل وتتم برمجته بحسب معطيات الخطاب. ولعل هذه الغرائز -جميعها أو جلها- تدفع بنا إلى أركان الخطاب واحتياجاته لتفعيل الذهنية بشكل فعال. إذاً لا بد من تجديد الخطاب مواكبة لتجدد العصر وتأثيراته، وهذا ما يتبعه علماء الخطاب في الغرب في الوقت الراهن بالنظر إلى ما تابعته، حيث عملت على تحليل الكثير من خطابات الرؤساء والمسؤولين في بلادهم.