لا نستطيع أن نعتبر اتخاذ الإجراءات التي تحد من الحريات في الظروف الاستثنائية لأي دولة ردا ناجعا على الإرهاب الجهادي، لأن هذا النوع من الإرهاب ليس ظاهرة عابرة، وأتباعه لم يظهروا فجأة كنبتة غريبة في مجتمعاتهم، فلا يزال قانون باتريوت لمكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة الأميركية الذي تم إقراره في 2001 بعيد اعتداءات 11 سبتمبر ساري المفعول، هذا القانون يعطي الهيئات التنفيذية المتمثلة في أجهزة الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي FBI صلاحيات واسعة في مجال مراقبة وتفتيش المشتبه بهم دون أن تكون لديهم أدلة ملموسة تدين المشتبه بهم، بشكل مباشر ودون فرض رقابة كافية على تلك الصلاحيات، الأمر الذي أدى إلى اختلال التوازن بين الأمن والحرية في الولايات المتحدة. إذن كيف تواجه الدولة -أي دولة- الظروف الاستثنائية الخطرة التي قد تمر بها، على سبيل المثال: تمرد، عصيان، انقلاب أو غزو خارجي؟

تعرضت فرنسا لثلاثة ظروف من هذا النوع: أولا، حالة الحصار وقانون 1849، حيث نظم المشرع الفرنسي هذا القانون وسماه "قانون الأحكام العرفية" عندما انتقلت السلطة المدنية إلى الجيش. ثانيا: حالة الطوارئ وقانون 1955 الذي عزز السلطات المدنية بطريقة مقيدة، وهو تعديل للقانون السابق وأكثر مسايرة للتطورات والمستجدات الملائمة لروح العصر. بعد ذلك، أقر المشرع الفرنسي المادة 16 في دستور 1958 التي تجيز لرئيس الجمهورية اتخاذ التدابير دون مناقشة أو رقابة برلمانية. ويمكن للمرء أن يتوقع أي شيء عند إعطاء الحكومات الصلاحيات المطلقة وفي الوقت نفسه قد يتردد البعض في محاسبة حكومة بلاده على أفعالها، لأنه وقتئذ سيخير بين أمنه والتجاوز عن المظالم والأفعال التي تعتبر غير قانونية في أوقات السلم. وهذا ما تسمعه فعلا في بعض البلدان العربية حين تتناقش مع العربي مثلا عن الأحكام الجائرة التي تصدر ضد معارضين أو متظاهرين سلميا، إذ يحدثك فورا عن الأوضاع الأمنية، غير أن هذه القوانين تظل سارية المفعول لعقود وتتجاوز الظرف الاستثنائي الذي يهدد الأمن الوطني والسلامة العامة، مما يعرض حريات المواطنين وحياتهم الخاصة أيضا إلى الخطر. من أسباب العمل بقانون الطوارئ: وقوع حرب، فتنة داخلية مسلحة، كوارث عامة أو وباء. وفي فرنسا تنص المادة رقم 36 من الدستور على أن مجلس الوزراء هو الجهة المعنية بإعلان العمل بقانون الطوارئ، لكن العالم العربي يعيش حالة طوارئ منذ فترة طويلة وازدادت الأوضاع سوءا بسبب الفكر الجهادي المتطرف الذي يعاني منه العالم بأسره والذي يميل إلى القضاء على الخوف من الموت، لذا تشعر الحكومات بالذهول والعجز أمام إنسان لا يخشى الموت بل يبحث عنه! بالنظر إلى فلسفة الجهاد، نجد أن الجهاديين يعتبرونه بمثابة ولادة جديدة ووسيلة للوصول إلى الخلود والنعيم الدائم. ففي أوروبا أججت الحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر بعد وعد المحاربين بمغفرة الذنوب إذا هم قاتلوا ببطولة ضد الفجار، وبالتالي هناك "فائدة من الموت"، وعندما يكون المقتول كافرا أو فاجرا أو ملحدا من وجهة نظر المجاهد فكأنه يخلص الكون من إثم وشر ومن ثم هناك قيمة واعتبار لهذا القتل. في المقابل، ليس هناك ميزة للموت في ظل الدولة الحديثة كفضاء سلمي، والدولة لا تغفر الذنوب، وتعاقب المجرمين، وبالتالي هناك خوف من ارتكاب جريمة القتل، كما أن الدولة تحتكر استخدام القوة لمعاقبة الجناة في إطار القانون الجنائي المحلي، وهزيمة العدو في إطار القانون الدولي في حالة المنازعات المسلحة.

يعيش الإرهابيون الدينيون على قناعة الحصول على السعادة في الدار الآخرة، فالموت يمثل لهم تحريرا من هذه الحياة الفانية وراحة من الذنوب والخطايا الأرضية لتفتح لهم السماء أبوابها وتقدم لهم الحور العين والخمر الذي لا يصيبهم بالثمل ولا يذهب بعقولهم. مثل هذه القناعات تعزز لديهم قوة قتالهم وأهمية القضية التي يحاربون من أجلها للاستشهاد. إذن الفكر الجهادي يقدم نفسه كبديل حقيقي للحياة الحديثة. أنا هنا لا أتحدث عن حكم الجهاد الحقيقي في الإسلام وأهدافه النبيلة في حالة مواجهة العدو، هذه قصة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر العنف على المتطرفين الإسلاميين، بل هو موجود في كل ملة ونِحلة ومذهب، فعلى سبيل المثال، عانت الدول الغربية من العنف والإرهاب عبر تطرف الفوضويين، الفاشيين، النازيين، الشيوعيين الثوريين، الانفصاليين الباسك، والكورسيكيين... إلخ. ولذلك يرى البعض أن الجهادية مجرد شكل جديد من أشكال العنف السياسي المتطرف، والسلفية الجهادية هو مصطلح أطلق منذ نهاية ثمانينات القرن الفائت على بعض جماعات الإسلام السياسي التي تتبنى الجهاد منهجا للتغيير. في هذا الصدد، نذكر عنف الفوضويين الذي شهدته فرنسا في سنوات 1890، كان هؤلاء نشطاء في مهاجمة رموز الطبقة الوسطى للدولة عبر تعريف جائر للقضاء والنواب ورئيس الجمهورية، كانوا شبه منظمين ويمارسون التطرف دون أدنى شعور بالخوف من الموت. كان تفاعل الجمهورية الفرنسية ضدهم سريعا بتشريع قوانين سميت بـ"الآثمة" خلال الفترة (1893-1894)، وتختص بمراقبة وتعديل المخالفات الصحفية التي نظمها قانون 1881، تصنيع وحيازة متفجرات، والعصابات الإجرامية التي يتزعمها الفوضويون. انتهكت هذه القوانين الحقوق الأساسية للمواطن الفرنسي وكان يفترض أن تكون موقتة لكن استمر العمل بها حتى عام 1892. كان طريق قمع الأفكار أحد الطرق الذي اتبعته فرنسا للنضال ضد الفوضويين الذين تسببت أفعالهم باضطراب عقلي جماعي، غير أن استنكار الرأي العام والصحافة والطبقة السياسية استطاع التغلب على انقسامات المجتمع. في حدود عام 1900 انطفأت جذوة الفوضوية كليا تقريبا، حيث أدرك بعض قادتها أن أعمال الإرهاب لا تؤدي إلى تغييرات، وأن هذه الاستراتيجية تصبح مدمرة ذاتيا. في الواقع، كانت كل عملية اعتداء تبعد الفوضويين عن الطبقة العاملة في فرنسا التي كانوا يدعون العمل باسمها، فالإرهاب لا يضعف الدولة فحسب، بل يعزز سلطة الشرطة والجيش والحكومة ضد الشعب.

الفكر الجهادي هو أيديولوجية عنيفة معادية للحداثة، تؤمن بـ"إعادة سبي" العالم. ليس جميع أتباعه جهلة أو محدودي الفكر أو مراهقين، بل الكثير منهم يحمل شهادات عليا في تخصصه. لذا نحن بحاجة إلى محاربة الفكر الجهادي بالأفكار إضافة إلى دراسة الأوضاع النفسية، الاقتصادية، والاجتماعية لأتباع الجهادية المتطرفة، ولا ننسى الوضع السياسي وسطوة الظلم والفساد في البلدان التي ينتمي إليها هؤلاء المتطرفون.

كما أن عقوبة الإعدام هي العقوبة الأساسية التي يحكم بها الجهاديون الذين ينتمون إلى من يسمون أنفسهم بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" على جميع معارضيهم، تتبع هذه الجماعة طريقة خاصة بها في قطع رؤوس المخالفين بعد إلباسهم زي سجناء غوانتانامو. والتحدي الذي يواجه الدول الحديثة هو منع ارتكاب هذه الجريمة التي تمارس بفخر ونشوة في أنحاء مختلفة من الوطن العربي، لا سيما في سورية والعراق. لا يستطيع أحد اليوم غض الطرف عن نشاطاتهم وإجرامهم لأنهم أصبحوا لاعبا رئيسيا ومؤثرا في سياسات الشرق الأوسط.