قراران مفصليان صدرا مؤخرا لا يمكن تجاهلهما في تاريخ المرأة العربية السعودية، مرا مرور الكرام في الصحافتين الغربية والعربية، وقد وجدت أنه من الضرورة بمكان الوقوف عندهما.

القرار الأول، وهو الأهم، الإعلان عن مشاركة السعوديات للمرة الأولى في تاريخ المملكة كناخبات ومرشحات في الانتخابات البلدية التي كانت حكرا على الرجال منذ انطلاقها للمرة الأولى في 2005، وهو حق انتزعنه بعد طول انتظار وصبر وكفاح نسائي شاق لا يمكن الاستهانة به، تماما كما لا يمكن الاستهانة بأثره على مستقبل المرأة السعودية بشكل خاص والمجتمع السعودي ككل، ومن الغباء الاعتقاد أن زج المرأة في غمار الحياة العامة ومواقع القرار هو محض عمليات تجميلية لن تثمر عن قمح طالما أنها لا تمتلك "رفاهية" قيادة السيارة أو الظهور في الإعلانات التجارية التي تروج لعالَم نسائي غارق في المرآة دون سواها، في حين أن منطق الأشياء يستدعي تحرير العقل والمعرفة قبل حرق المراحل واعتماد سياسة الوثبات الطويلة التي قد تؤدي إلى كسر رأس اللاعب إن لم يمتلك المهارة المطلوبة، وهو ما حدث، حسب زعمي، للنساء في بعض الدول العربية التي تعاملت مع الحرية كقشر يسبق اللب.

لن أدخل في تفاصيل العلاقة البوهيمية بين القوانين المقرة لحقوق المرأة وحجم الحرية الحقيقية الممنوحة لها في دول عربية تدعي العلمانية وعلى رأسها سورية، فهذا الموضوع الإشكالي الملتبس تشوبه شيزوفرينيا سياسية واجتماعية حادة أفضل أن أخصص لها بحثا بعينه، وسأكتفي هنا بالتنويه بأن المرأة السورية التي تقود السيارة وترتدي من الأزياء ما تشاء وتتبوأ مناصب إدارية ووزارية منذ أن حصلت على حق الانتخاب والترشح في 1949، أي بعد خمس سنوات فقط من نظيرتها الفرنسية، ما زالت حتى اليوم تقتل تحت مسمى جرائم الشرف لينجو الجاني دون عقوبة تذكر!

المرأة الفرنسية الرائدة في مجال النضال من أجل الحريات بدأت معركتها الوجودية منذ القرن الثامن عشر بيد أنها لم تحمل شهادة بكالوريا مساوية لشهادة الرجل إلا في 1924، كما أنها بقيت تعامل كقاصر تخضع لسلطة الزوج في كافة التعاملات المالية والمدنية حتى عام 1938، وأيضا لم تنتزع حق الانتخاب إلا عام 1944 متأخرة بشكل كبير عن نظيراتها الغربيات، دون أن يحبطها هذا التأخر أو يمنعها من إثبات حضور استثنائي في بلد، رغم كونه الأول في حقوق الإنسان، إلا أن نساءه العاملات أجورهن أقل من أجور الرجال حتى تاريخ كتابة هذه السطور، ونظرته الذكورية "البطرياركية" الاستعلائية ما زالت حاضرة لدى البعض ممن يرون النساء غير جديرات بالعمل السياسي.

أما القرار الثاني فيتعلق ببعض التسهيلات التي تتيح للمرأة حرية السفر والحركة دون محرم أو بدون إذن ولي الأمر عبر استخراج جواز سفر من قاضي الأمور المستعجلة ما لم يملك هذا الولي "سببا مقنعا" للمنع، وإذا ملكت هي "سببا مقنعا" للسفر، وهذه الإجراءات، رغم عدم تلبيتها كليا لمطامح الناشطات السعوديات، ستفتح الباب على حضور أكبر للمرأة في ميادين التعلم والعمل والحياة العامة داخل المملكة وخارجها، وستحمي الكثيرات من التعنت والجور والعنف النفسي والسلوكي الممارس ضدهن من قبل بعض أولياء الأمر، وهو عنف سائد في معظم الدول العربية بما فيها تلك ذات التجارب "الديمقراطية" و"الجمهورية" و"التحررية"، ومنها سورية.

لقد أمضيت حياتي وأنا أرصد واقع المرأة العربية وأجزم أني لم أعرف، إلا نادرا، سيدات تجرأن على التعلم أو العمل أو السفر قبل علم وموافقة الزوج أو ذكر من العائلة، ومن فعلن دفعن أثمانا باهظة لعصيانهن، ولا بد من الاعتراف، رغم قسوة ذلك، أننا جميعا كعربيات محكومات بسلطة ذكورية أبوية قديمة لم تتمكن الدساتير المستوردة من تخفيف سطوتها، رغم تغيير الأدوات وارتداء ربطات العنق الحديثة.

أعلم أنه من المؤلم أن نتبارى كنساء عربيات في استعراض من منا وضعها أقل أو أكثر بؤسا، إلا أنني أجدني مرغمة على الحضور الصادق كلما سُلط الضوء على المرأة السعودية دون سواها كما لو كانت الوحيدة التي تعاني من التهميش والتعنيف، وتحضرني في هذا المقام وجوه الكثرة من دعاة التحرر العرب الذين يضعون قبعات "البيريه" الفرنسية وينظرون متباهين بدعمهم لحرية وحقوق الزوجة أو الأخت "السافرة" التي أوجعوها ضربا قبل أيام لأنها لم تطبخ البامية كما ينبغي، ومثلهم معظم اليساريين "التقدميين" الذين هجروا رفيقات الدرب والنضال والمعتقل وتزوجوا شابات صغيرات محتشمات يَلِقن بالعرف الاجتماعي ويتقنَ، حصرا، غسيل الأقدام بالماء الساخن والملح، بعيدا عن وجع رأس نظريات الرفيقين ماركس ولينين.

في الواقع كل القرارات تصبح حبرا على ورق إن لم تتغير النظرة الاجتماعية السلبية للمرأة، وأملك جرأة القول، دون أن أبرر لأي طرف من الأطراف، إن العرب الخليجيين عموما والسعوديين خصوصا هم الأكثر صدقا وانسجاما ووضوحا في موقفهم من المرأة، فهم على الأقل يفعلون ما يقولون، ويبدون ما يبطنون، دون أن يزاودوا علينا بالشعارات التحررية البراقة التي أشبعنا منها نحن النساء الناشئات في ظل الأنظمة العلمانية، قبل أن نسقط على رؤوسنا ونرجم بحجارة من باعونا وهم المساواة مع الرجل، ولعل هذا الصدق بين الخطاب والممارسة والبعد عن الزيف والممالقة هو ما يدفعني إلى التفاؤل والقول إن أدنى إنجاز تحققه المرأة السعودية هو أعمق أثرا وأكثر نضجا وأرسخ استمرارا على المدى البعيد، وإن التطور التدريجي في مسيرتها الحقوقية قد يمنع عنها خطر الارتكاسات التي تعرضت لها النساء في الدول التي وضعت العربة قبل الحصان.

شهر آب أغسطس، موعد المرحلة الأولى من العملية الانتخابية، سيكون علامة فارقة في تاريخ نساء المملكة، فهنيئا لكن يا سيداتي العزيزات بهذا النصر، سرن إليه ولا تعبأن بأولئك العابثين السارقين لسعادة فوزكن، إن من يتقنُ فن السير على الحبال الشائكة لن تثنيه بعض الممرات الضيقة.