لم يكن مستغربا ردة فعل بعض الدعاة ورجال الدين تجاه إحدى المسلسلات التلفزيونية التي انتقدت بعض سلوكيات المتدينين في المجتمع، معتبرين ذلك نوعا من الاستهزاء والسخرية من الدين المخرج من الملة! وليس هذا وحسب بل من يشاهد المسلسل ويضحك على تلك المواقف الكوميدية الساخرة فهو مرتد كافر أيضا!
يقول أحد الدعاة عن ذلك المسلسل ما نصه "من عادة المنافقين الاستهزاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهيئاتهم وأخلاقهم أكثر من رسالتهم، لأنهم يريدون الجمع بين التأثير والأمن من العقوبة".. ويقول أيضاً "الاستهزاء بالدين والضحك عليه والأنس به حكمهما واحد، لما استهزأ اثنان بالدين وضحك واحد أنزل الله فيهم (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)".
والسؤال المطروح هنا: هل بالفعل استهزأ المسلسل بالنبي عليه الصلاة والسلام أو بأصحابه رضي الله عنهم؟ أو بعبارة أخرى: هل ثبت عن رسول الله أو صحابته أنهم قاموا بكسر آلات الموسيقى والغناء أو قاموا بتعليم كيفية تكفين الأموات في الأسواق؟.. الإجابة بالطبع هي النفي، ولكن الخطاب الديني للأسف يروّج للناس أن أي انتقاد للدعاة أو رجال الدين معناه الاستهزاء والسخرية من الدين نفسه، ولعلي لا أبالغ إن قلت بأن الاختلاف في الرأي أيضا يعد نوعا من الكفر والزندقة.
قد يعترض معترض هنا ويقول "العلماء هم ورثة الأنبياء، وبناء على هذا المقياس فإن الاستهزاء بالعلماء هو استهزاء بالأنبياء أيضا"، ورغم الوجاهة المنطقية لهذا الرأي إلا أن السؤال المثار هو: هل نقد الآراء أو السلوكيات البشرية غير الملائمة يعتبر من السخرية؟ وهل كل من ادعى التدين يعتبر عالم دين؟ وما هو معيار الوصول إلى مرتبة "عالم"؟ وأخيرا هل هناك بالفعل آيات قرآنية تحرّم نقد رجال الدين؟
فكما رأينا آنفا، كيف تم تأويل الآيتان 65 و 66 من سورة التوبة في قوله تعالى: (إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون.. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)، مما يرسخ لدى الناس أن نقد الدعاة والمشايخ كفر وردة عن دين الله، ولكن لو سمح القارئ الكريم لنفسه بالعودة إلى الآية 64 من سورة التوبة نفسها في قوله تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون)، واستمر في القراءة إلى الآية 67 التي تتحدث عن المنافقين والمنافقات، لوجد أن السياق القرآني يتحدث عن المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم وأصبحوا مجرمين وجواسيس يعاونون المشركين الذين نقضوا عهدهم وشنوا حربهم وعدوانهم على المسلمين.
وبالتالي فإن الآيات القرآنية التي يستشهد بها بعض الدعاة في التحذير من نقدهم ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بمنع النقد أو مناقشة وتمحيص آرائهم الفكرية.. فلماذا يلجأ الدعاة إلى هذا النوع من التأويل عند نقدهم في وسائل الإعلام؟
الإجابة عن السؤال السابق تتمثل في وجود عدة عوامل مختلفة والتي تعتبر في نفس الوقت آفات أو أمراضا موجودة في المجتمعات الإيديولوجية، منها الاستبداد وإقصاء المخالفين، وهي تتحرك على مستوى إثارة الكراهية في المجتمع.
فالمجتمع الإيديولوجي لا يتحمل تنوع الآراء والأفكار، وكل سؤال يواجه الإيديولوجيا له جواب محدد ولا يمكن تصور التعدد في الأجوبة، وبالتالي تظهر طبقة معينة من المفسرين للدين لا يمكن تحمل غيرهم من الآخرين، ليكون رأي هذه الطبقة أو الفئة من الناس هو الحكم الفصل في شتى المجالات، وتظهر بصورة مجموعة من المؤدلجين وهم يختلفون كثيراً عن معنى علماء الدين.
وبالطبع فإن هذه الطبقة مقدسة تتولى تفسير الدين بحيث تكون مواقفها العقيدية والعملية ترسم الفهم النهائي لتعاليم الدين وتتعالى على النقد والتحليل، ويكون قولها حجة على الناس، فيتحول رجال الدين إلى رموز ثقيلة وضخمة تكون محل الإجلال والانقياد والانصياع، لا محل النقد والتحليل، فإن كلامهم ورأيهم من شأنه إخراج وطرد كلام الآخرين، وسلب الجرأة من أفراد المجتمع على إبداء الرأي والاستقلال في الفكر والعمل.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن العلم الذي لا يتوافق مع الإيديولوجيا ليس علماً، حتى التاريخ يخضع للحذف والانتقاء، وفي كل مرة يظهر أمر مقدس جديد يجب أن تذعن إليه العقول فلا مجال لتحريك الأذهان في دائرة السؤال والنقاش، فينتشر النفاق والتملق والتبجيل والمديح، فيكون الدعاة ورجال الدين فوق القانون وفوق النقد، ويتم إخافة الناس من التفكير، فيتم التعامل بكل عنف وخشونة في مقابل أي تحول أو نقد وتعددية.
لذا كان ذلك المسلسل التلفزيوني "سلفي" نموذجا قويا لكشف تلك الإيديولوجية التي يكون فيها المجتمع على مستوى فكري واحد، فيتم النظر إلى الأمور بأحكام مسبقة، وتكون التحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مرسومة مسبقاً فلا مجال لتحريك الأذهان والعقول.
وما يقوله بعض الدعاة ورجال الدين من أن النقد الفني لهم هو استهزاء بالدين يهوي بصاحبه سبعين خريفاً في النار، ما هو إلا غطاء لمنع حالات النقد بحجة امتثال الأوامر الإلهية، وتم إيحاء هذه الفكرة للناس، وهي أن ما يقوم به رجال الدين ويقولونه للناس عبارة عن أحكام الدين الإسلامي وتطبيق الشريعة، وعلى ضوء ذلك لا يحق لأي شخص انتقاد هؤلاء في أقوالهم وأعمالهم، وبهذه الطريقة ألبسوا أنفسهم ثوب القداسة وتم إدغام حرمة الدعاة بحرمة الدين، وعليه فإن نقدهم يعتبر نقداً للدين، ومن هذا المنطلق منعوا حركة الانتقاد والتحليل والنقاش باسم الدين وباسم الإسلام.. وفي النهاية أطرح هذا التساؤل: إذا كان نقد رجال الدين محرماً في الإعلام فلماذا لا يكون محرماً أيضاً فيما يتعلق بنقد المسؤولين في الجهات الحكومية؟ أليس معنى ذلك منع المحاسبة والمساءلة؟!