تخيلوا معي، ماذا لو ثمة قرار بحظر الفن قد دخل حيز التنفيذ في عالمنا العربي؟

لا يمكن تخيل ذلك لأن الجمع بين ثنائية الفن والحظر يؤدي بالضرورة للجمع بين الشيء ونقيضه.

فالفن في طبيعته يتصل بالحرية والإبداع اللذين يرفعان عنه كل قيد.

نعم، الفن يرضخ بالضرورة للنقد والتقويم، ولكنه يبقى نقدا يشارك في صناعة الفن والدراما، لا أن يكبله أو يمنعه أو يحجر عليه. هل يعقل أن ثلاث حلقات فقط من مسلسلي "سيلفي" و"أستاذ ورئيس قسم" كانت كافية لهذا القصف العشوائي الذي يتعرض له الفنانان "ناصر القصبي" و"عادل إمام"؟

أعلم جيدا أن هذه الأعمال لا تخلو من النقد، إلا أن عناوين الهاشتاقات السريعة التي تم تدشينها بسبب "سيلفي" مثل "مطلوب رأس ناصر القصبي للمجاهدين"، و"مسلسل سيلفي يستهزئ بأهل الدين" و"mbc تسخر من الملتزمين" وغيرها، تدل على أننا نتفنن في مصادرة الفن والإبداع. بل أكثر من ذلك وهو الأدهى والأمر أن تأتي المطالبة سريعة بإيقاف عرض مسلسل "عادل إمام" من قبل نقابة علماء مصر، إذ أرسلت النقابة إنذارا إلى قناة "mbc مصر" من أجل إيقافه.

النقابة أعلنت في بيانها أن "مؤلف العمل يوسف معاطي جانبه الصواب حين أراد التعبير عن أصحاب الاتجاه اليساري، وأنهم أصحاب أطماع وانتهازيون وعديمو الخلق.. وكان من الممكن أن يجعل معاطي بطل مسلسله ناشطا سياسيا من دون الإساءة إلى طائفة تمثل مهنة سامية ونبيلة، وهي مهنة التدريس في الجامعات".

ويمكنني القول إنه على الرغم من الإقصاء الذي طال "القصبي" و"عادل إمام"، إلا أنهما نجحا بامتياز، ودليل نجاهما الضجة التي أثارها المسلسلان، والتي تدل على أن هذه الأعمال أوفت الغرض وحركت النفوس، وتلك هي مهمة الفن العظيم، كما تتضح إنسانية هذا الفن خلال تفاعلهما الهادئ إزاء هذه الاعتراضات، إذ كتب "القصبي" على صفحته في تويتر: "قليلا من الهدوء ورمضان كريم، نحن في أول أيام الشهر الكريم"، مؤكدا في نفس الرسالة أن حسابه يطفح بالشتامين والمهددين واللاعنين بكل فنون اللعن والتهديد والشتم.

وكذلك الفنان "الزعيم" قال في مداخلة هاتفية مع الإعلامي وائل الإبراشي ضمن برنامج "العاشرة مساء"، عبر فضائية دريم 2، "انتظروا فقط حتى نهاية المسلسل وبعدين احكموا مش هقول غير كده وشكرا".

إنني أتصور أن المطالبات بإقصاء عمالقة الفن العربي لا تعني فقط مصادرة الفن والتضييق عليه، بل تمثل خطوة انتكاسية وتقهقرية تطلق رصاصة الرحمة بفرض حالة من الاتباعية على ما تبقى من عقل، والنتيجة هي تعطيل العقل والتفكير بالوكالة، وهذان أمران خطيران دأب عليه الإقصائيون؛ انعكاسا لرغبتهم في الهيمنة على كل تفاصيل الحياة وانتزاع القدرة من الفرد على إعمال العقل.

الهجمات الشرسة التي طالت الفنانين كشفت بجلاء أن طريقنا طويل جدا حتى نعي معنى حرية التعبير في الفن والإعلام.

الشعوب المتقدمة أدركت أن النقد القاسي وفن السخرية من أرقى الفنون، بعكسنا نحن العرب الذين نعتقد بأن كل سخرية تغتال من كرامتنا، وكل كلمة تجرحنا، وكل نقد يهيننا.