القضاء على الفساد مهمة ليست سهلة، بل إنها أكثر تعقيدا في تفاصيلها من المتاهات، فأنت يمكنك أن ترى مظاهر الفساد بصورة انطباعية تعتمد على السياق الذي في ذهنك لا على الحقيقة التي لا تعرفها ولا تعرف تفاصيلها، ولهذا فالقضاء على الفساد يتطلب جهدا ووقتا ومحققين أمناء وقبل ذلك ومعه وبعده إرادة لا تلين وعزيمة لا تكل وقوة لا يعتريها الضعف ولا تنال منها استجداءات الشفقة والرأفة بمن تفرعن وفسد وأفسد وحين وقع في سوء أعماله أصبح كالحمل وداعة والقديس طهارة، هذا إضافة إلى الوضوح التام في إعلان النتائج حيث لا بد من تحويل كل فاسد إلى عبرة لغيره ، هذه العبرة من أقوى سبل الردع إن لم تكن أقواها على الإطلاق.

في نجران مثلا تحقق جانب من هذه العبرة حين أطاحت وزارة الداخلية وإمارة المنطقة بنحو عشرة رؤوس من الفاسدين الذين تولوا كبر مخطط وهمي وكسبوا من ورائه عشرات الملايين ولأنهم من كبار الموظفين في إمارة نجران وفروعها وبعض أجهزة المنطقة فإن الأخبار التي نشرت أشارت إلى إحالتهم للتقاعد وأظنها صيغة مخففة لمصطلح الفصل أو الطرد ،لأ ن التقاعد ليس عقوبة إلا إن كان تمهيدا للمحاكمة، ولأن الحقيقة غير كاملة، فقد قلت إن الإجراء الذي تم بعد سنة أو أكثر من التحقيق المضني يمثل جانبا من العبرة أما الجانب الأهم فيتجسد في إعلان أسمائهم وحجم ومصير الملايين التي نهبوها، والعقوبة التي يستحقونها، وهذه النتيجة هي ما ينتظره الناس فيما يتعلق بكارثة جدة الشهيرة سواء الخمسة الذين أعلن مؤخرا إحالتهم للقضاء، أو الموظفون والمواطنون الذين زوروا لنيل تعويض المليون عن المتوفين، وهي النتيجة المنتظرة في أي قضية فساد يتم كشفها لأن السرية والغمغمة في هذه القضايا الخطرة لا تقدم المساهمة المتوخاة في محاربة الفساد، بل فوق ذلك تفتح بابا للشائعات والتكهنات، التي قد تبرئ مجرما، وتجرم بريئا لأن الناس سيتداولون انطباعاتهم أكثر من تداولهم للمعلومات التي يجب على الجهات المختصة أن تقدمها كاملة بوضوح، ولعلني هنا أشير إلى ما فعلته وتفعله هيئة سوق المال ولجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية فمع تحفظي على الوقت الطويل جدا الذي تستغرقه في القضايا المالية إلا أن النتائج التي تعلنها واضحة ومقنعة، ولست قاضيا لأتحدث عن أحكامها، لكنني أقول إن النتيجة التي تعلنها وآخرها ما أعلنته عن متداولي سهم شركة الباحة في عام2006 لا تدع مجالا لمتسائل فهي تعلن المخالفة واسم مرتكبها والمكاسب التي حققها من مخالفته، ثم توضح أن العقوبة غرامة مالية قدرها كذا ومنع من التداول لمدة محددة والأهم من ذلك كله استعادة الملايين التي كسبها المخالف خلال فترة مخالفته، وهنا تتحقق العبرة كاملة من هؤلاء المخالفين، فإذا نقلت الصورة إلى الفاسدين في الحكومة فإن أحدهم لن يجد بأسا إذا لهف مئة مليون ريال أو أقل أو أكثر طالما أن سابقيه في طريق الفساد عوقبوا فقط بالتقاعد من الوظيفة، فهذا في نظر الفاسدين أفضل وقت للتقاعد الأخضر، وسيردد كل منهم بفرح - هذا يوم مولدي-.