حين تسقط ورقة من شجرة الأدب والثقافة في عالمنا العربي لا تختفي ولا تنتهي، بل يبقى صداها في الوجدان يخاطب كل من يصغي، بل كل ذواق لرحيق الكلمة وكل باحث عن الفكر وعن الشعر وعن الحكمة.

يوم الأحد الماضي خسرنا شاعرا وحكيما، خسرنا من كان نبضه يجري في دماء البادية، خسرنا من كان يشعر بآلام من حوله ويقدمها رواية في قصيدة شعبية تسحبنا إلى عالم الضحية وتجعلنا نفكر ونتعاطف ونعيش الدمعة والحسرة.

"أنتِ طالق" من القصائد التي شدتني وجعلتني أعيش معه قهر كثير من النساء اللائي يرمين بعد عُشْرة عمر لمجرد أن السيد اعتبرهن متاعا ولسن بشرا! يجسد فيها وببراعة تجبر الرجل الذي قرر التخلي عن زوجته فقط لأنها في نظره "عاقر" وبالتالي لا تصلح للعُشرة! مشهد بعد مشهد نتابعه للمرأة المنكوبة وهي تترجى وهو يردد "أنت طالق"! لنقرأ حسرتها وهي تناشد إنسانيته:

والحياة اللي زرعناها بأيدينا زنابق... أنتي طالق

والمشاوير اللي رسمناها على كل المفارق..... أنتي طالق

كل شجر ما تحمل غصونه ثمر تزهي الحدايق

قطعو أولى وتشتعل فيه الحرايق....أنتي طالق

تزوج وخليني عندك... افرح بفرحة ولدكم..

يسكن بقلبي عساه يلقى السلامة....

أوهبو عمري لو ينده لي ماما

اعتبرني من عددكم... ولك اتركني خدامه عندكم.... أنتي طالق

والقصيدة الثانية التي رسم فيها مشاعر الأمومة الفطرية في المرأة فخرجت لوحة شعرية لأم تنتظر ابنها الغائب وتذكّره بكل ما مرت به إلى أن أصبح رجلا، ولكن لنكتشف أنها بالأساس لم تكن تنجب!

الروعة هنا أنها عاشت كل ما كانت تحلم به حتى إنها قبلت أن تكون الأم المنسية ما دام ذلك يجعل منها أمّاً! تبدأ القصيدة بطلب منها للشاعر بأن يكتب لولدها رسالة تقول فيها:

تسع تشهر... وانت تكبر وأنا أكبر...

وأحس الدنيا من حولي… غدت أكبر…

تسع تشهر… أقوم الليل… نص الليل

أصحى من الفجر… أدعي:

إلهي لا تخيبني.. إلهي لا تعذبني…

إلهي ارأف بحالي… إلهي ابعث الغالي…

أربيه… بدمع عيني…

بحياتي ما شفت أطول علي من تسع تشهر

وأشوفك بالحلم… تمشي

على روحي... على رمشي

أشوفك تحمل بنعشي…

أشوفك تقرأ بكتابك،

أشوفك سيد صحابك،

أشوفك جاي تتمختر مثل عنتر...

لا مو مثل عنتر

انت أحلى... وانت أكبر

وبعد أن انتهى من كتابة الرسالة حضنتها ثم نثرتها للرياح تحملها وأخبرته بأنها ستصل لابنها، وماتت وهي تحلم بذاك الابن الغائب! لقد أوصلنا الشاعر إلى أن المرأة خلقت لكي تكون أمّاً حتى ولو لم تنجب طفلا!

وقدم لنا قصيدة "حمده" التي فعلا جسدت ما يجري إلى الآن في مجتمعاتنا العربية، إنه إجبار البنت على الزواج بمن ترغبه الأسرة! وهنا على الأخص قضية حجر الفتاة لابن عمها! فضلت الصبية الموت على أن تتزوج بمن لا تريده:

ما أريدك... ما أريدك حتى لو تذبحني بيدك

ابن عمي... ومثل أخويّ ودم وريدي من وريدك

أما خطبة لا يا عيني

لاني نعجه تشتريها

ولاني عبده من عبيدك

ما أريدك!

حتى السرطان الخبيث ذكره وعشنا معه حياة "كوثر" وهي في قمة جمالها ورونقها ثم رأينها تذبل، ولكن بإيمان قوي ورضا بقضاء الله، هنا لم يتركنا دون أن يدوّن فكره في ثنايا القصيدة:

صارت تسأل وين العلماء بعالمنا... اللي ما ردوا شر السرطان

هذا اللي يتململ بينا... ويتلوى مثل الثعبان

توصلنا كل يوم أخباره... فجع فلان وصرع فلان

يترك بيت ويدخل بيت... ولا رادع إلا الرحمن

والعلماء تعيش هموم... بتصنيع سلاح الشيطان

شاغلهم أسهل أسلوب... بكيفية قتل الإنسان!

وتركت للنهاية ما شدني في الأصل لأعمال شاعرنا العربي الكبير قصيدة "الوطن"، والتي لا أحتاج أن أتحدث عنها فهي تتحدث عن نفسها:

طيور الأرض تلف الكون وتعاود لأرض الهاجرت منها

السمك يعبر خليج الموت قبل الموت وتعاود مكامنها

النمل الها مأمنها... النجم الها مساكنها

الحجر الها معادنها... الشجر تزهي بأرض وحده مفاتنها

الا الناس، عجيبه الناس... تعيش الغربه بالغربه ولا تذكر مواطنها

الوطن يبني شبيه الأم... ان رادت ترضع وتفطم، ان رادت توهب وتحرم

بأي حاله أسمها الأم

الوطن يسكن خلايا الدم... غريزه تسري عبر الدم

لما نموت بالغربه تظل الروح تلفانه حزينه مشرده بالهم

الوطن عزه وكرامه وصحوة الوجدان

الوطن صبر وعزيمه وقوة الإيمان

الوطن يبني ما هو لفلان أو لفلان أو لفلان

الوطن يبني ما هو سايب يصير بلحظه مجنونه لأي من كان

الوطن للي جذوره مثبته بتاريخ يتزاحم مع الأزمان

الوطن للي يخلي الصحرا مخضره ويزرع بالصخر بستان

الوطن للي سما حتى وصل مرحلة إنسان

الوطن ساكن عشق فينا ولو غبنا

الوطن للي بنا اللبنه على اللبنه

الوطن للي لجل أرضه نذر نفسه ورخص ابنه

الوطن للي يرد الغاره بالكونه

على الله توكل وجابه ولغيره ما طلب عونه

الوطن يبني رقم واحد وبعد ميه يجي العالم

بناهيتها الوطن يبني... الوطن عرض البني آدم

نعم رحل ولكنه ترك لنا إرثا نحمله للأجيال القادمة قصائد ومشاهد تركها فينا لتذكرنا بذاك الإنسان الذي كنا يوما نعرفه!