سأتوقف هذا الأسبوع قليلا عن الحديث عن النمو الأخلاقي والعدالة وعلاقته بتصوراتنا عن الخير والحق والجمال؛ لأعود قليلا إلى قضية سبق أن طرحتها ولكن الصراع الأيديولوجي والطائفي المتصاعد حاليا يجعل من المفيد إعادتها من جديد.
هذا المقال مخصص لآليات التفكير الأيديولوجي مستندين في ذلك على ما ورد في كتاب د. محمد سبيلا "الأيديولوجيا.. نحو نظرة تكاملية" الذي يذكر أن منطق التفكير الأيديولوجي يمكن ملاحظته في التالي:
1ـ حجج الالتجاء إلى الشفقة: الأيديولوجيا تتجه بخطابها للجماهير في المقام الأول، فهي تقوم وتنتشر وتحقق أهدافها على حسب ما تحققه من نجاح في تكوين قاعدة جماهيرية عريضة. وبما أن الإقناع بالحجج العقلية المنطقية لا يوفر هذا الأمر، لعدم التزام عموم الجماهيرية بها، فإنها "أي الأيديولوجية" تسلك طريق التأثير العاطفي من خلال رفع مستوى التأجج العاطفي على حساب التيقظ العقلي واستغلال هذه الحالة في تمرير الأفكار الصادرة عن المرسل.
فالإسلاموي الجهادي يتجاوز كل مشاكل الجهل والتخلف والتأزم الثقافي والسياسي التي يعانيها المجتمع الذي يخاطبه، ويصور المشكلة على أن هناك إخوة لنا يقتلون وتنتهك أعراضهم، وأن هناك امرأة مسلمة ينتهك عرضها يجب أن نهب لنجدتها، وهو لا يطرح كثيرا من الأسئلة بل يظهر المسألة على أنها بديهية وتنتظر فقط تطبيق ما يراه من حلول، وتلحظ هنا أنه يستخدم مؤثرات عاطفية شديدة الوقع كالمرأة وانتهاك العرض واستغلال تعاطف الناس مع الأطفال عموما في عرض صورهم؛ يستدر بها انجذاب المستمعين له وحين نتقصى الهدف الحقيقي نجد أنه مختلف تماما فهو يريد أن يصل لنصر ذاتي وبالتالي لا يمانع من قتل المسلم المخالف له أو المعترض طريقه.
2ـ حجج الالتجاء إلى الجهل: تقوم هذه الحجج على أساس أن عدم فهم نظرية ما وعدم التواصل معها وغموضها دليل على خطئها، فالنظرية أو الفكرة التي لا يمكن إثباتها تماما هي خاطئة، وليست محتملة، وهذا ما يفسر عداء الأيديولوجي التقليدي للحداثة بوصفها غامضة وغير مفهومة (نلاحظ هنا سخرية بعض الوعاظ من الألفاظ الحداثية الغامضة)، وكانت هذه أيضا إحدى الحجج التي واجهت بها الأيديولوجيا الإسلاموية الخطاب الفلسفي ووصفه بالغموض والاستعصاء.
3- المحاكمة المثالية: هذه الحجة أضيفها أنا هنا على أطروحة سبيلا. المحاكمة المثالية تقول التالي: الفكرة "س" لا يمكن تطبيقها بالكامل ولذا يجب أن نتخلى عنها. مثلا حين الحديث عن المساواة يعترض الأيديولوجي الإسلامي على مساواة المواطن المسلم بغير المسلم ويعترض الأيديولوجي العروبي على مساواة المواطن العربي بغير العربي. إحدى حجج الرفض أن المساواة نفسها مستحيلة. المقصود بالمساواة هنا المساواة الكاملة المثالية. لتوضيح مشكلة هذا التفكير دعونا نفكر في العدالة مثلا. بناء على التفكير السابق، العدالة الكاملة مستحيلة إذن يجب أن نستبعدها كهدف ومعيار لسلوكنا. هذه نتيجة خطيرة ناتجة عن تفكير غير سليم لأن الشؤون الاجتماعية والسياسية لا يمكن أن يتوفر فيها الكمال المثالي. المطلوب إذن مساواة أكبر، وعدالة أكبر قدر الإمكان.
3ـ حجج التجريح أو الالتجاء إلى إنسان:
وتقوم هذه الحجج على مهاجمة الإنسان بدلا من نقد فكره، أي الاتجاه إليه مباشرة وحين يوصل الأيديولوجي مستمعيه أن هذا الإنسان "خبيث"، "فاسق"، "حكومي"، "معارض" فإنه يستنتج من ذلك أن ما يخرج منه لابد أن يحمل هذه الصفات، ومن ناحية أخرى فإن صحة فكرة ما هي تابعة لشخصية قائلها. والأيديولوجي يستخدم هذه الحجة في إبعاد أو تقريب مستمعيه من الأفكار على حسب الانتماء الفكري لصاحبها، فالماركسية والفرويدية مرفوضتان؛ لأن ماركس وفرويد من اليهود، وحقوق الإنسان مرفوضة؛ لأنها نتاج الغرب ومنظومته الفكرية.
ولا شك أن هذا المستوى من النقاش متدن ولا برهاني ولا موضوعي فهو يخلط بين السلوك الشخصي للذات وما ينتج منها من أفكار.
وهذا النوع من الحجج شديد التأثير على الجماهير لأن كثيرا من الناس اعتاد الحكم على الأفكار من خلال سلوك صاحبها لأنه لم يتعود على التفكير المجرد الذي يناقش الأفكار ذاتها بعيدا عن انتماءات أصحابها، فالمقياس هو صحة أو خطأ الفكرة ومعقوليتها.
وهذا ما يبرر الدفاع المستميت من الأيديولوجيا عن أي محاولة تكشف الجانب الإنساني لرموز هذه (الأدلوجة) بل تضاد ذلك بمحاولة إظهار هذا الرمز سليما من الانحرافات والخطأ بل وتقريبه من صورة الملاك.
هذه الأيديولوجيات غالبا تدفع ضريبة هذا التفكير حين تتكشف للناس جرائم القائد المغوار قاهر الأعداء ليسقط بالكامل تماما كما يطالب هذا الخطاب أن نفعل مع الخصوم.
4ـ حجج الالتجاء إلى ظروف الإنسان:
وهي الحجج التي تقوم على أن مبرر قبول فكرة ما هو الظروف التي يعيشها المتلقي وهذا الاستغلال للظروف يجعل الظرف هو محدد نوعية الأفكار المختارة، وهذا مخالف لما ينبغي من أن يكون منطلق اختيار الأفكار هو صحتها وقدرتها على تغيير الظروف القائمة. وهذا الأمر شديد الخطورة في منطقتنا التي تشهد أوضاعا غير مستقرة ومستوى متدنيا للمعيشة والتعليم والصحة، مما يوفر مناخا خصبا للأيديولوجي يكسب من خلاله قلوب الجماهير فيما هو غير مهتم بتحسين تلك الأوضاع بقدر ما هو مهتم برفع رايته وحزبه مهما كان الثمن.
أحيانا ظروف القهر العميقة تدفع الإنسان للبحث عن أي بديل في عطش عميق للتغيير. الأيديولوجي قد يستثمر هذا الوضع لدعم أطروحته الخاصة التي قد لا تختلف كثيرا عن الأمر الواقع الذي يدعي الأيديولوجي محاربته. في المقالة اللاحقة سأستكمل عرض هذه الحجج في محاولة لفهم طبيعة منطق الأيديولوجيا وتأثيرها على الناس.