من المرويّات الواردة في كتاب (أعلام الموقّعين) لابن القيم: أنّ كاتبا كتب لعمر بن الخطاب: "هذا ما رأى الله ورأى عمر" فقال: "بئس ما قلت قل هذا ما رأى عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر". وورد في الكتاب ذاته تحت عنوان (النّهي عن أن يقال هذا حكم الله) أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك". وأورد كذلك خبرا عن مالك تحت العنوان نفسه يقول: "ما أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنا؛ فينبغي هذا، ولا نرى هذا". ولعل ذلك انعكاس لفهمهم ما جاء في القرآن الحكيم: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون". وهو لا شك فهم لا يعبّر عن التورع فحسب، بل هو أيضا فهم عميق للبون الشاسع بين قصور علم الآدميّ ونسبيته واتساع علم الخالق وإطلاقيته، وعليه فإن من العسير جدا تجاهل مثل هذه الهوّة من العجز البشري والقفز على حقيقتها دون تورط في الخروج من دائرة التعبّد إلى دائرة التألّي، بل والتألّه إذا طاش بالإنسان غروره ولم يسعفه رشده.

ماذا لو قارنّا هذا الفهم بما نسمعه الآن في خطابنا الدينيّ، هل سنقع على مثل هذا الإدراك عند أغلب من يتعاطى الوعظ ويقتحم الفتيا في مجتمعاتنا؟

للأسف فالغالب على العكس من هذا، ومخالف له إلى حدّ بعيد. بل أكاد أجزم أن قارئ المقال لا يعدم أمثلة لموقف تضمن خلافا فقهيا، فحسمه أحدهم بقوله: (هذا ليس حكمي بل هو حكم الله) في اتجاه معاكس تماما للطريقة العُمرية! ولعل هذا ما يجعل الكثير ممن نشأ على مثل هذا الخطاب الوعظي يضيق بالخلاف الفقهي، إلى الحدّ الذي قد يحتد معه في سلوك عصابي لا تبرير له. حيث يصعب عليه استيعاب فكرة مرونة الدين وقابليته لاستيعاب الأضداد من الآراء. فالدين في مخيّلته كتلة جامدة لا سبيل إلى سماحيتها بغير كسرها. ولكن الحقيقة على خلاف ما في مخيلته، فالمنظومة الدينية لا تعبّر دائما عن الوحي الخالص، بل من مقتضياتها أن تتفاعل مع أفهام البشر واختلاف ظروف معاشهم، لذلك فيها القطعي والظني في الثبوت، والقطعي والظني في الدلالة، وكذلك منها الثابت والمتغير، ومنها ما هو رأس في الأولويات وما هو ثانويّ. وعلى المسلم ألا  يفهم المسلم هذا بشكل نظري فقط، بل عليه تمثّله فقها وسماحة.

لعلّ من الكوارث في هذه القضية أن يحتكم الناس إلى المألوف ليعطوه صكّا بالقبول اليقيني، ويعرضون عن الاحتكام إلى الدليل، فإذا أتاهم ما يعارض مألوفهم جابهوه بقولهم: (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)، من أمثلة ذلك لدينا أن يسخط الجمهور على قائل بقضايا خلافية لم تبن في أحد أحكامها على معلوم من الدين بالضرورة، كإباحة الغناء وكشف الوجه ونحوها من قضايا لو تلقاها عقل مستقل بشيء من الأمانة والجهد لوقع فيها على آراء لها حظّها من الوجاهة وإن غايرت مألوفاته. ولكن استقرار المواقف منها في الأذهان واصطباغها بطابع اليقين يحول دون ذلك الإنصاف التعبّدي، ويفسح المجال لطغيان روح المناكفة التي لا تتورع عن الزعم: (هذا حكم الله ورسوله) دون أي وخزة برهبة وقوع في التألّي على الحقّ سبحانه.

وقد لا تتوقف خطورة الصدور من نموذج يقيني عند هذا الحدّ، بل غالبا ما تتطور في متوالية على هذا النحو: فهمي للدين قطعي إذن فهمي يمثل الدين، أنا الناطق بهذا الفهم إذن أنا أمثّل الدين، الدين من عند الله ورسوله إذن أنا أمثّل الله ورسوله!

لعل هذه المتوالية مسؤولة عن إفراز كل تيار يصادر على غيره حقه في التعاطي مع دين الرحمة بحسب فهمه وتراكمه المعرفي، ومسؤولة عن تطور تلك المصادرة إلى العنف والدمويّة إذا لم تجد رادعا قسريا. هي (المتوالية الداعشية) عينها، التي ما إن تسنح لها فرصة البزوغ إلى الواقع حتى تفعل كل ما لا يتوانى عنه من يشعر بوهم ألوهية منبعه اعتقادا بالصدور عن الحقّ المطلق، فيسفك الدماء ويفسد في الأرض دون تهيب من رادع. ولا يشترط من أجل التعرف على هذه المتوالية خروجها إلى فضاء الفعل القتالي كما في أفعال داعش وغيره، بل يكفي أن تطلّ بشكل صارخ في خطابات بعض أولئك الذين بلغ بهم تضخم الأنا الصادرة عن اليقين الأعمى أن يظهروا كلّ انتقاد يمسهم كإساءة إلى الدين نفسه. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).