كالعادة نجحت بعض وسائل الإعلام مع بدايات شهر رمضان في جر قطاع عريض من السعوديين إلى دوامة جديدة من الجدل الذي يهدر على عموم المجتمع منافع هذا الشهر الفضيل، ويشيع بدلا منها أجواء التحريض والكراهية والتنابذ، فيما نحتاج جميعا إلى التكاتف والتلاحم في مواجهة أخطار أكثر إلحاحا وضررا، منها ما يُطل علينا من نوافذ العداء والآخر لا يزال يتربص!
هل يعقل أن نستهل شهر الرحمة باستقطاب فكري وثقافي يصل حد التكفير وإباحة القتل والترويج للفرقة، بينما الأصل في هذا الركن الإيماني هو أن نتواد ونتراحم ونعيد بناء الجسور التي انقطعت بيننا في غيره من الشهور؟، ثم هل يليق أن يحدث ذلك من جانب نخبة يفترض أنها مسؤولة عن تقديم المثل في رحابة الصدر وسعة الأفق والسعي إلى سد أي منفذ للفتنة، والخلاف بين أبناء الشعب الواحد؟!
يقول البعض: إن رمضان فرصة لإلقاء الضوء على السلبيات حتى يتنبه لها المجتمع ويتصدى لأضرارها قبل أن تصبح أمراضا عصية على العلاج، وهو قول في عمومه صحيح، غير أن السؤال الذي ينبغي أن نتوقف أمامه هو: لماذا لا يُلقى هذا الضوء على مثل هذه السلبيات في الشهور الأخرى من العام، ونترك لرمضان أن يلهمنا التلاقي والتوافق؟ ثم أليس من الأجدى في هذا الشهر بالذات أن نركز على الإيجابيات حتى يعظمها المجتمع في بقية الشهور، فتولد بيننا روحا من المحبة القادرة– بطبيعتها– على قهر السلبيات، بما يريحنا منها نهائيا، دون حاجة لكل هذا الضجيج الموسمي؟
ويدفع آخرون في اتجاه مزيد من الإثارة فيقولون: إن أجواء رمضان تجمع الناس حول شاشات التلفزيون ووسائل التواصل المختلفة، وبالتالي فإنها تمثل فرصة لتفجير ما يمكن وصفه بالقضايا المسكوت عنها في حياة المجتمع، وهو أيضا قول صحيح شكلا، لكنه يفتقد -من الناحية الموضوعية – إلى الإقناع المطلوب، خصوصا إذا نظرنا إلى أن هذه الأجواء يمكن استغلالها في تفعيل مسار أهم، هو إشاعة الود والتسامح من خلال فعاليات دينية وفنية وثقافية قادرة على ترسيخ القيم النبيلة التي يمثلها الصوم، كعبادة قوامها الصبر والامتثال لأمر الخالق الأحد.
أخطر من ذلك، هو أن السعي إلى الإثارة الفكرية في رمضان تتضمن خطرا أعظم يتنامى بشكل مثير منذ سنوات، ويتمثل في تحول هذا الشهر – على الأقل بالنسبة لقطاع من العاملين في المجال الإعلامي– إلى مجرد موسم للحصاد المالي والجماهيري.
وهؤلاء- للأسف- لا يتورعون عن خلط التجاري بالدعوي، الإعلامي بالسياسي، محتمين في ذلك بمقولات براقة تبدو مناسبة كعناوين للأخبار أكثر منها تعبيرا عن حقائق أو ضرورات.
تقديري أن تأمُّل هذا الخطر يستدعي منا أن نعيد النظر في التعامل الإعلامي والفني مع شهر رمضان، لا بهدف الحجر على رأي أو رؤية، وإنما من أجل الوقوف على المسار الصحيح الواجب اتباعه حتى نبلغ الغاية العظمى من الأجواء الإيمانية التي تصحب هذه الأيام المباركة.