-1-
أصبحت ثورة المعلومات والاتصالات، التي نشأت في نهاية القرن العشرين، من أهم وأعظم الثورات البشرية في التاريخ. وهذه الثورة بأثرها العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وفي كافة المجالات، دفعت التقدم البشري إلى الأمام خطوات سريعة غير مسبوقة، وكانت أهم من كل الثورات في التاريخ، كالثورة الصناعية، والثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، وأخيراً الثورة البلشفية. والمدهش، أنه لم يكن أثر هذه الثورة محصوراً في بلد من البلدان، أو قاصراً على شعب من الشعوب، بل كانت للناس كافة، على مختلف أجناسهم، ومشاربهم، وأديانهم، وألوانهم. فاستفاد منها الصيني في أقاصي الصين، كما انتفع بها الغربي في أعماق الغرب.
-2-
كانت ثورة المعلومات والاتصالات ثورة إنسانية لكل البشر. كذلك، فإن هذه الثورة لم تتكلم لغة واحدة، وتلك أهم مميزاتها، وإنما تكلمت بكافة اللغات الحية. ولم تضع سداً أو حاجزاً، ضد تدفق المعلومات، سواء كانت هذه المعلومات توافق الأيديولوجيا القائمة في بلد ما، أو تخالفها.
ولعل أهم ما حققته ثورة المعلومات والاتصالات، تحقيق الحرية الإنسانية بضربة واحدة. فإتاحة الإنترنت لنشر كل ما نريده من جاد وهازل، ومن مفيد ومضر، ومن أبيض وأسود، حقق القسط الأكبر من حرية تدفق المعلومات، التي كانت البشرية تسعى إلى تحقيقها، منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا، ولكن القيود السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية، كانت تحول دون ذلك، وترى خروجاً على العُرف والمُتبع بإزالة مثل هذه القيود.
-3-
لقد أصبح رقم المواطنين الذين يستخدمون الإنترنت في بلد ما، دليلاً ومؤشراً أكيداً على مدى وعي المواطنين لما يدور حولهم في هذا العالم. وبذا، انتفت العزلة الحضارية بفعل المكان والزمان، لأي بشر على وجه الأرض. وأصبح ممكناً لكل إنسان على وجه هذه الأرض، في مشرقها ومغربها، أن يتواصل مع أي إنسان آخر في أية بقعة من هذه المعمورة. والملاحظ، أن ثورة المعلومات والاتصالات، أفادت كثيراً البشرية، في سرعة تقدم مختلف العلوم. مما أتاح للعلماء أن يحققوا اكتشافاتهم بأسرع وقت ممكن، وبأدق وسيلة ممكنة. وهذا يدفعنا – كعرب ومسلمين - إلى الكفِّ عن ملء شاشات الإنترنت بالهذر المجاني. ولا ننسى، أن هذه الثورة قد أفادت البشرية، حيث أدت إلى صناعة المواد الاستهلاكية الجيدة بأسعار رخيصة، كما نشاهد الآن، فيما تنتجه الصين من سلع ذات جودة عالية، وأسعار رخيصة. وفي ذلك خير عميم للبشرية جمعاء.
-4-
ربما لم تستفد العولمة من ثورة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كاستفادتها من ثورة المعلومات والاتصالات. فإذا كان هدف العولمة إزالة القيود والسدود أمام الشركات التجارية العابرة للقارات، فقد قامت ثورة المعلومات والاتصالات بذلك خير قيام، دون داع لتغيير السلطات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. زيادة على ذلك، فإن العولمة التي تجتاح العالم الآن- وخاصة "العولمة الاقتصادية"، وإنشاء الشركات العابرة للقارات- لا شروط مسبقة لها، تضعها على كل من يريد أن يتعولم، أو يدخل ناديها الكبير، الذي أصبح الآن يضمّ أكبر دول العالم، وأكثرها تأثيراً وغنىً وعلماً وصناعة، وهما: أمريكا، والصين. وبذا، برز في العالم في نهايات القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين، قطبان عالميان عظيمان، ولكنهما ليسا قطبين سياسيين ذوي رؤوس نووية مهددة بفناء البشرية، كما كان الحال قبل 1990 من القرن الماضي، مع وجود قوتين عسكريتين عُظميين هما: أمريكا، والاتحاد السوفيتي. فظهرت لنا الآن قوتان اقتصاديتان صناعيتان هما: أمريكا، والصين، بدلاً من القوتين الشريرتين السابقتين: أمريكا، والاتحاد السوفيتي. وفي ذلك خير عميم، إن لم تتحول الصين مستقبلاً، إلى قوة عسكرية ونووية تهدد البشرية، كما كان عليه الاتحاد السوفيتي السابق.
-5-
الأستاذ راكان حبيب كتب هنا في "الوطن" (5 /10 /2010) مقالاً بعنوان "لن تقدروا على الإنترنت"، جاء فيه بخبر مهم ولافت، وهو بلوغ عدد مستخدمي الإنترنت في السعودية حوالي عشرة ملايين مستخدم حسب إحصائية قامت بها Stats Internet World . والمهم في مقال راكان تساؤله عن معنى هذا الرقم الجميل والمبشر – في رأيي – والذي يدل على أن 50% تقريباً من سكان المملكة يستخدمون الإنترنت. وعدَّد راكان بعض معاني هذا الرقم في التالي:
1- انتفاء واستحالة تطبيق الرقابة البطريركية الأبوية - حسب تعبير الراحل هشام شرابي – المُحكمة والفاعلة من أية جهة من الجهات، على ضبط شبكة الإنترنت، التي أصبحت كالجني الذي انطلق من قمقمه، ولا قوة على الأرض، تستطيع إعادته إلى هذا القمقم!
2- إننا أمام تحول كبير في مصادر المعلومات لجيل جديد، أغلبه لا يلتفت إلى الصحف الورقية، فمن المستحيل أن نقول له ماذا تفعل في فضاء الإنترنت؟ لكن لو سأل أحدهم سؤالاً بعقلية ما قبل الإنترنت، كيف نتعامل مع المدونين، وكتّاب مقالات الصحف الإلكترونية؟ فإن الجواب الصحيح، هو أن نفعل كما تفعل معظم دول العالم المتقدمة في ممارسة حق التعبير، ببساطة أن نترك هذا الجيل يمارس حريته. وعلينا القيام بتفعيل نظام حرية التعبير. كما فعلت بعض الدول.
3- نحن أمام جيل جديد، ولا بد أن نتعامل مع النشر الإلكتروني بعقلية ثقافة هذا العصر، خاصة عندما نعلم أن عدد زوار مواقع الشبكة الاجتماعية في العالم العربي 15 مليون زائر، أي أنه يفوق أعداد نسخ الصحافة الورقية التي لم تتجاوز 14 مليون نسخة. مما يعني، أن مجالات الإنترنت واسعة، ووسائطه متعددة، ويسهل الدخول إليها من كل باب.
4- وأضيف على هذه المعاني المعنى الرابع، وهو أن تقدم التكنولوجيا في بلد ما، هو الذي يتحكم بتطور المجتمع، كما قال العالم الكندي ماك لوهان Luhan في كتابه ("مفهوم وسائل الإعلام"، 1964). ولعل هذا الاستخدام الواسع في السعودية، للإنترنت هو مقدمة طبيعية للتقدم في الوعي، والتفكير، والبحث عن الحقيقة، للخروج من الأنفاق.
-6-
المفكر المصري/الفرنسي سمير أمين في كتابه "نقد روح العصر"، يصف مقولة لوهان تلك، بأنها أحادية الأبعاد، بل ويقول، إنها ساذجة، لأنه قد استشفَّ من كلام لوهان، توجيه البحث العلمي في اتجاهات معينة، نابعة من اختيارات اجتماعية تخضع لاعتبارات سياسية، واستبعاد اتجاهات أخرى. وكان سمير أمين يؤكد ويحرص بذلك، على ألا تكون الإنترنت مظهرا من مظاهر الاستبداد الجديد. خاصة، أن عملية استيعاب التقدم، تفرض على التكنولوجيا الخضوع للشروط الاجتماعية السائدة.