(أيها الشاكي الليالي إنما الغبطةُ فِكْرهْ
ربما اسْتوطنتِ الكوخ وما في الكوخِ كِسْره
وخلتْ منها القصورُ العالياتُ المُشْمخِرهْ
تلمسُ الغصن المُعرى فإذا في الغصنِ نُضْرهْ
وإذا رفتْ على القفْرِ استوى ماءً وخُضْرهْ
وإذا مستْ حصاةً صقلتْها فهي دُرهْ
لك، ما دامتْ لك، الأرضُ وما فوق المجرهْ
فإذا ضيعْتها فالكونُ لا يعْدِلُ ذرهْ)
إيليا أبو ماضي
بداية كل عام وأنتم بخير ومبارك عليكم جميعا شهر رمضان المبارك.
الإيمان فكرة خيرة والكفر فكرة سيئة، فللأشرار أفكارهم القاتلة لغيرهم ولأنفسهم أو حتى المدافعة عن القتلة، ولأهل الطيبة والكرم أفكارهم التي تنير دروب المغلوبين على أمرهم فتمد لهم لقمة وتمسح دمعة وتعلم جاهلا رسالة مفادها أن الحياة فكرة طيبة كشجرة طيبة.
المتأمل في مخرجات عقولنا يلاحظ أنه تسلبنا فكرة وتحيينا فكرة وتقتلنا فكرة! بل وننظر إلى حياة نحن نتصرف معها على أنها فكرة يراها المتفائلون خلابة ومغرية، وينظر إليها المتشائمون على أنها موت مقنع!
تأملوا معي: إن ذاكرتنا -التي يستأصل النسيان كثيرا من أحداثها المهمة- يكون سر وسببه النسيان تلك المعلومات المتتالية التي تزدحم بها؛ وعلى الرغم من هذه الحقيقة يقع عدد من الناس لسبب غامض أسارى الفكرة الواحدة من بين مئات آلاف غيرها يدورون في فلكها! برغم ما يمر على العقل من كم هائل من الأفكار في كل لحظة إلا أن هناك من يصر على طردها جميعا والتمسك بفكرة واحدة ينام ويصحو ويسخر حياته لها.
هذا الأسر يعني عبودية تعبير لا ترحم قد تقود إنسانا للإجرام، وربما لقتل أقرب الناس له لأن إيمانه قاده للدمار كما يفجعنا قاتل أخته الذي قاوم فكرة زواجها من رجل لم يقبله عقله ولا حسبه ونسبه، وبالتالي يعترض على موافقة والده ويفعل فعلته! بل قد يقود اليأس أيضا الإنسان لينهي حياته فيحضر الموت كفكرة قوية!
التعصب الرياضي "فكرة حفرة" يسقط فيها المتعصبون من نعومة أظفارهم، ومن الطبيعي أن يحدث لهم نمو عاطفي يقاوم هذا التعصب في شبابهم المتأخر إلا أن الكارثة أن يستمر التعصب ويزداد ويشيخ المتعصبون، ويبقى التعصب محافظا على شبابه وفتوته، حتى إنه ليروى أن أبا كهلا يعول أسرة من زوجتين وأطفال حزن من نتيجة مباراة مؤخرا خسر فيها فريقه فنام تلك الليلة ولم يصح رحمه الله!
أيضا ظهر مقطع (يوتيوب) قبل أيام لأب يسخر من هزيمة فريق ابنه وانتصار فريقه والطفل يبكي بحرقة، ثم يغضب ويحضر سلاحا ليقتل والده والأب يضحك وهو ينتزع السلاح من يد ولده! وكل هذا مرده إلى التعصب الفارغ والبقاء في نطاقه الضيق.
التعصب أيضا قد يسيء للفكرة العظيمة فيجعل الخوف من عدو كإيران مثلا يجعل المتعصب يرى أن الحل هو أن نتصالح مع إسرائيل ونتعاون معها لحرب إيران ونفتح لها الأبواب والسفارات!
الفكرة "الحفرة" ليست سيئة بالضرورة ولكن السوء أنها تلح على الإنسان ولا يرى غيرها في صحو أو منام ويبالغ في تعبيره عنها بشكل غير مقبول أو مشوه، وهنا تحدث المشاكل المخيفة كما في القصص المذكورة سابقا!
على مستوى الحوار نجد المتعصبين لرأي والمتعصبين لرأي مضاد يقودهم رفضهم لنبذ الخير القادم من المقابل، فيقتلون فكرة خيرة ويعجزون عن أن يواروا سوء صنيعهم؛ لذا ثار كثير من ذوي الوعي عندما صوتت أغلبية ضد مشروع للوحدة الوطنية في مجلس الشورى مقابل أقلية تقترب من نصف الرافضين وافقوا على المشروع والسبب في الرفض مجهول.
أيضا الخوف من التغريب شبح تغذى في عقول نفخت فيه روحا وجعلته يلاحقها وهي تهرب منه! والجهاد فكرة يصر على الدعوة إليها والتباكي لأجلها من يتباهون بصورهم (السلفي) في تركيا وغيرها من بلاد الأمن والجمال بعيدا عن الجهاد ومعاناته في وقت تظهر أخبار قتل شبابنا بشتى الطرق، أو تعذيبهم على مرأى ومسمع العالم؛ فأي جهاد يحثون عليه ولا يبادرون إليه؟!
الخطاب المتشنج والدعاء على المنابر فكرة ربما تسللت من اضطهاد المسلمين على يد أعدائهم لكنها لم تعد مجدية اليوم فالقاتل والمقتول اليوم من المسلمين وبأيديهم!
ما تم سرده من قصص لم تكن من وحي الخيال، والمحزن أنها لم تحدث في فترات طويلة ومتباعدة بل في الأيام الماضية ولا ندري ما الذي تخفيه الأيام المقبلة؟!
العقول الثرية لا تعاني ازدواجا ولا تقف عند حدود رأي واحد، بل تقبل المختلف وتسمع منه وتحاكم نفسها كما لو كانت مكانه، ولا تزج بغيرها للتهلكة وتتمنى الشهادة بعد عمر طويل على الوسادة!
العقول النيرة تلقي بذور الوعي أو تزرع شتلاته بفكرة نقية وصحيحة، وربما دفعت ثمنها غاليا من حريتها خاصة لو لم يقبلها الآخرون في البداية لكنها تكبر وتكبر حتى تصل بشموخها للسماء فتدهش الداني وتهدي القاصي.