ينحني المدى وتئن عروق الفضاء، وتتيبس خضرة الروح، ويقضم الحزن ورق الضوء وأنا ألمح الرحيل الأبدي، وأرى مخلبه الجارح يحمل حلة الكفن القشيب، وينشرها على جسد مضيء كان صبحا شفيفا، وتنهيدة عطر نشوى وهديل حمام وارف.

أتقن لغة الحواس وفتح شبابيك الكائنات لتصغي له الرحاب المغلقة، ومدارات الوعي وحوائط المساء، وجذوع الشجر، وبروق الشتاء، وقناديل الشوارع.

كان الربابة التي تدوزن عليها الشرفات موعد حضوره القزحي، وهو يعطر بصوته عروش الريح وصباحات المدينة وحدائق الأحلام المدفونة، كتبت عنه كثيرا وحدثني كثيرا، لكوني ضد من ينصبون خيمة العزاء ويستجلبون طقوس المناحة بعد الرحيل ويستشعرون حرقة الفقد، ولكن بعد انطفاء السراج.

قلت له وهو حي: أطالب وبشدة باستزراع هذا الصوت والعقل والعصامية، والاحتفاء والاكتشاف لأقاليمه بكل ما يختزنه من تجارب ومعارف، عندما تحتسي صوته بأذنيك يسري في داخلك طعم النعناع وعذوبة البحر، في صوته تسكن مواويل العائدين من رحلة الغوص، وأناشيد الرعاة فوق سفوح الجبال، في فمه تستيقظ اللغة وتستحضر الأبجدية رشاقتها، بدر كريم ليس حنجرة تهطل بصفاء النبرة وخصوبة الإحساس فقط، ولكنه تجربة نادرة يتلبسها الوعي، وتتسلح بالثقافة الرصينة، هناك أصوات تطربك وتسليك، ولكنها لا تتعدى حدود المتعة والانفعال الموقت واللحظي، ثم لا تلبث أن تضمحل وتتلاشى في الهواء، دون أن تترك أثرا أو تثير حسا.

قبل 50 عاما كنت أصغي إلى بدر كريم بكل ما يختزله من جماليات الحوار الباسق، ومعمارية الحضور المبهج، وهو يحاور رموز الثقافة والسياسة والفكر والفن كل مساء، بغية مقاربتها وإظهار مكامن جوهرها، وملامسة حياتها ومتعلقات بشريتها، كان ذلك في برنامج "ضيف الليلة" في رمضان المبارك، كم كنت أعاني حين تباغتني موسيقى "رقصة الأطلس" ويتضاءل صوت الرادي "أبو بطارية" مما يستدعي شحنها في اليوم التالي عند مهندس "المواطير"، ويترتب على هذا سفري من قريتي النائية إلى مدينة "أبها"، ذاكرة ذلك الجيل لن تنسى "في الطريق، تحية وسلام، طلابنا في الميدان، دعوة الحق" وعشرات البرامج التي تمثل وثيقة تاريخية وثقافية في المشهد الإعلامي السعودي.

أول لقاء جمعني بأمير الميكرفون كان في مكتبه في إذاعة جدة، وكان يجلس إلى جواره العملاقان "محمد حسين زيدان، ومطلق مخلد الذيابي" رحمهم الله جميعا، وأنا أصغي إلى تلك اللغة المتعالية والحوار المستفز للذهن والمخيلة والنقاش الفكري الساطع، رحم الله بدر كريم سيبقى سنديانة شاهقة مطلولة بالأنداء والأضواء واخضرار النسغ، وسأبقى مستدفئا بصوت ابنه "ياسر"، فهو العنقود الأشهى في تلك الخابية، والقافية الأعذب في قصيدة الأمير الراحل، واللحن الطروب على مقام "الحجاز".