دعونا نتفق في البداية على أنني حتما أضم صوتي إلى أصوات طلابنا الدارسين على حسابهم الخاص، والذين يناشدون بضمهم إلى عضوية البعثة، وذلك استنادا إلى الوعود التي تلقوها من الوزارة قبل تكبدهم عناء السفر والوصول إلى بلد الابتعاث، وهم دون شك غير مسؤولين عن أي تغير مفاجئ في الأنظمة والقوانين.

لكن السؤال الذي أحاول أن أطرحه اليوم، هو: لماذا تسود بين طلابنا ثقافة العيب فيما يتعلق بالعمل أثناء الدراسة في الخارج، ولماذا يقضي الغالبية -لا سيما المبتعثين منهم- جل وقتهم في إطلاق الدعوات والمناشدات من أجل رفع مخصصات الابتعاث، والتي تم زيادتها بالفعل أكثر من مرة خلال عشر سنوات، ولكنها بحسب كثيرين لا تفي متطلبات الحياة في بلاد يعيش معظم مواطنيها برواتب شهرية مماثلة وربما أقل!!

أتذكر أنني عندما وصلت إلى فرنسا كانت مخصصات المبتعث السعودي لا تتجاوز 900 يورو فقط، كنت أدفع 600 يورو ثمنا لإيجار غرفة في منزل سيدة فرنسية، ولا يتبقى معي سوى 300 يورو هي مصروفي اليومي حتى نهاية الشهر، بعض الطلاب هنا كان يصرف هذا المبلغ بالكامل في أيام الشهر الأولى، ثم يعتمد بالطبع على والديه اللذين يرسلان له ما يكفي حاجته حتى آخر الشهر، وهذا لا ينطبق عليّ، إذ كان والدي موظفا متقاعدا لديه كثير من المسؤوليات، لكنها لم تمنعه يوما من تقديم دعمه المعنوي المتواصل لي، حتى وصلت إلى عاصمة الأنوار.

بدأت بالتلفت حولي حينها، فوجدت أن حالي أفضل من حال كثيرين هنا، فالطلاب من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية يصلون إلى باريس دون توفر أي مصدر دخل لهم، وبعضهم من قضى شهورا في العمل من أجل توفير ثمن تذكرة السفر فقط بعد حصوله على قبول في الجامعات الفرنسية، فيصل إلى هنا دون مأوى ويضطر إلى المبيت عند بعض أصدقائه حتى يجد عملا مناسبا أو أن يحصل على مساعدة من الدولة الفرنسية التي دون شك تعد من الدول المتقدمة جدا في مسألة احتضان الطلاب الأجانب وتقديم الدعم لهم.

تعرفت في باريس على طلاب يقومون بأعمال بسيطة وبدوام جزئي، لكنها تجربة أضفت على حياتهم خبرة ومتعة في الوقت ذاته، منهم من كان يعمل في مكتبة الجامعة، أو في رعاية الأطفال، أو كحراس أمن في المناطق السياحية والمتاجر الكبرى، وربما كباعة في المحال والمطاعم، ومن حالفه الحظ وجد عملا في مجال تخصصه، أهله بعد تخرجه للحصول على وظيفة أحلامه!

حتى أساتذة الجامعات كانوا ولا زالوا ينظرون بشكل مختلف للطالب العصامي المكافح الذي يحاول تقسيم وقته بين الدراسة والعمل، ويحرصون على مساعدته وتقديم الدعم الكافي له على جميع الأصعدة، فعمل الطلاب بدوام جزئي هو السمة الغالبة في الغرب، أما الحصول على منحة دراسية فهو الاستثناء.

بعد مرور سنوات التقى بعضهم صدفة في شوارع باريس، وقد تحسنت أمورهم بشكل ملحوظ بعد التخرج، لكن تلك التجربة لن تُمحى من ذاكرتهم، لأنها ساعدتهم في بناء شخصية قوية تنظر إلى الحياة من زاوية مختلفة، زاوية أكثر اتساعا وإشراقا.

قبل أعوام عدة وقفت على تجربة جميلة طبقت على الأطباء السعوديين الدارسين في فرنسا، إذ سمح لهم بالعمل في المستشفيات الفرنسية ضمن اتفاق تم توقيعه مع الملحقية الثقافية، وكانوا يحصلون على راتب شهري إضافة إلى مكافأة البعثة، بل ويتجاوز قيمتها أحيانا إن عملوا لساعات إضافية، وحبذا لو تطبق برامج مماثلة على تخصصات أخرى، لتعود المنفعة على الطالب الذي سيكتسب خبرة وعائدا ماديا إلى جانب الدراسة، وعلى الوطن الذي سيستفيد يوما ما من كل هذه الخبرات.