ثغثغات يمتلئ بها الفضاء السمعي، فتلوث السمع والوجدان والهوية! هجين مختلط من اللهجات غير المحلية (لهجات عربية) وهجين بين اللغة الإنجليزية والعربية! ومشتقات مستحدثة توبخ الضمير في كل دقيقة تمر. غيرة غير متوافرة بين أناس لا يربطهم بعروبتهم سوى لغتهم.

هبطت ذات مرة في مطار برلين فمكثت ساعات أهرول في الطرقات وأتحول إلى متسولة للإجابة عن سؤالي؛ ولكن بدون جدوى حتى فتح الله عليّ بوجود لبناني يتحدث العربية! كل ذلك لأن الألماني يرفض التحدث مع أحد إلا بلغته هو، كما أن ألمانيا ترفض العمل أو الدراسة أو الإقامة أو منح الجنسية حتى يتقن الفرد المتقدم اللغة الألمانية.

أما إنجلترا وأميركا فقد نجحتا أن جعلتا الإنجليزية هي اللغة السائدة حتى يصل الأمر أن نتباهى بها وكأن من يتقنها قد استعاد المسجد الأقصى! أما اللغات الشرق آسيوية فقد نجحت العمالة في بلادنا على نشر –إما الإنجليزية المكسرة- أو التحدث معهم بلسانهم في عربية مشوهة! لماذا هذا العار وهذا التنازل عن لساننا الذي قال عنه المولى، عز وجل: (وهذا لسان عربي مبين)، ولو تأملنا لوجدنا ذلك الفخر أوالجلال والتاريخ أو ثقافة الإعجاز التي لا توجد إلا للغة العربية التي اختصها الله -سبحانه وتعالى- لكتابه الكريم! فلم نحملق في الأفق مشدوهين خلف اللغة وهي تهاجر فلا رجعة لها في الأفق إذا لم نتدارك الوضع؟!

لقد كنت في أحد المهرجانات الدولية في إحدى الدول العربية، وتقدمت الوزيرة لتلقي كلمتها، إلا أنها تثلغ الكلمات ثلغا، وتتكأكأ في اللغة بشكل كبير، وحينما سألت أحد المجاورين لمقعدي قال لي: إن ثقافتها فرنسية! ثم تمر السنون وأحضر افتتاح أحد المهرجانات في دولة عربية أخرى، فألقى الوزير كلمة مدتها خمس دقائق، إلا أنه أخطأ في هذه الدقائق الخمس خمسة أخطاء! أيعقل هذا؟

أمر غريب لم أجد له أي تفسير! سوى أننا لا نغار عليها ونستهين –فالعود في أرضه نوع من الحطب-، والأشد والأنكى أننا لا نعتز ولا نفتخر بها، بل نتباهى حين نلوي ألسنتنا لنعلي من ذواتنا باعتبار أن اللغة الأجنبية مستوردة والولع بالمستورد لدينا مرض عضال عافانا الله وأنتم منه.

إنها لغة القرآن الكريم، ولغة سيدنا محمد الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بل ولغة أهل الجنة. وبهذا نقف هنيهة عند عظمة اللغة العربية التي أشار إليها المؤرخون بأنها قد اجتاحت العالم في العصور التي تجد من يغار عليها، والتي كانت جزءا لا يتجزأ من تكوين شخصياتهم الفذة القائدة، حتى أصبحت أكثر سعة وانتشارا من اللاتينية واليونانية كما دونه المؤرخون، فلهذه اللغة قداستها وقدمها كلبنة أولى من لبنات الحضارة البشرية والإنسانية بأنها اللغة الأولى لبني البشر وللإنسانية بصفة عامة، وكيف أنها لغة أهل الجنة كما ذكر(الطبري وأبو الفوز وابن كثير)، حيث قال: إن آدم يكنى في الجنة بأبي محمد. ثم انتقالها إلى الأرض حيث إن اسم آدم -عليه السلام- كان عربيا كما بينت المصادر سالفة الذكر، حيث إن الاسم (آدم) هو مشتق من أدمة الأرض، كما ذكر (السويدي) في كتابه!

ولهذه اللغة عظمتها، خاصة القديمة منها، فهي محفوظة في المتاحف العالمية مثل متحف (إيدن)، فنجد بعض النقوش الحجرية منها في المتحف نفسه، والتي يحتفظ بها هذا المتحف؛ وبعض النقوش التي لم تُفك رموزها بعد! وقيل إنها باللغة العربية الجنوبية وحينما حاولت قراءتها وجدت أنها تقترب من لهجة جنوب الجزيرة، خاصة أهل تهامة تقريبا.

لا يهم فك نصوص هذه النقوش بقدر أهمية أنها صدرت من الجنوب الغربي للجزيرة العربية في زمن ما قبل التاريخ!

ألم يحن الوقت أن نغار عليها وأن نفتخر بها؟!

أتعجب من ذلك السباق المحموم على حجز مدارس اللغة الأجنبية، وعلو أسعارها والتفاخر بأن ابن هذا أو ذاك في مدرسة أجنبية اللغة! لسنا ضد العلم وتعلم اللغات، ولكننا ضد الترخيص والاستهتار، بل والتنكر للغتنا الأم، أم الحضارة الإنسانية أجمع. لسنا ضد المعرفة وطرق أبوابها، ولكننا ضد التباهي بغيرها حتى أصبحنا ننطق كلمة عربية مطعمة بمرادفاتها الأجنبية -للتباهي والاستعراض ليس إلا- بالرغم من أن الحديث بين عربيين!

فها هم الألمان يتقنون اللغة الإنجليزية والفرنسية أو إحداهما، إلا أنهم لا يحدثون أحدا بغير لغتهم، أليسوا على قدر كبير من الاحترام والتقدير؟

يقول الشاعر فؤاد بركات، وهو شاعر سوري ولغوي من الدرجة الأولى: "لغتنا العربية.. تلك اللغة البديعة.. أميرة بين اللغات.. ولها صفتان من صفات الأميرات العراقة والعظمة أولا.. ثم صعوبة الوصول إلى قلبها"، وحينما سألته عن سبب هذا الحس الدقيق في اللغة لديه قال: أجبرني والدي على تعلمها صغيرا، ومع أنه لم يحمل سوط والد بيتهوفن الذي كان يضرب ابنه صغيرا ليعزف الموسيقا، فإن والدي كان يمثّل لي "الكُتّاب" الذي يجبرك على الحفظ؛ فتضيق به وأنت طفل، لكنك تدعو له شاكرا كل العمر، لقد أجبرني والدي على حفظ القرآن وأنا صغير. فصار حسُّ الصواب في قراءة العربية سليقة عندي. فأنا قبل أن أعرف سبب اللحن أحسّ أن الأرض زلزلت من خطأ في كلمة، أو وزن بيت من الشعر.

سرحت قليلا في كلامه وتذكرت أن عباقرة الشعر والأدب والفن أيضا كانوا قد حفظوا القرآن صغارا! مثل طه حسين وسيد درويش، والعقاد، وحتى أم كلثوم. إذا وفي ظل التعليم المتدني في بلادنا، والتهافت على مدارس اللغات اجعلوا لأولادكم (كُتَّابا) اجعلوهم يحفظون القرآن، وأعتقد أنه مفتاح السر للحفاظ على لغتنا التي أصبحت للأسف مهاجرة.