لقد تغيرت طبيعة وظائف الإدارة التي كنا نعرفها في الماضي، فمع التطور الهائل للتقنية الحديثة في مجال المعلومات والاتصالات، تغيرت معها طرق التخطيط والتنظيم والرقابة، فازدادت معها المخاطر والمسؤوليات، فقد كان الهدف من الإدارة في السابق هو وضع الخطط للموظفين لتنفيذها، ووضع القواعد واللوائح للالتزام بها، ووضع ضوابط رقابية لضمان التنفيذ.

وفي الوقت الحاضر، فإن الإدارة اليوم كما يقول الباحثون تعتمد على "استثارة حماس العاملين وإفساح المجال لقدراتهم الابتكارية، والبحث عن رؤى مستقبلية وآمال مشتركة وتكوين قيم وقناعات مشتركة، وإعطائهم سلطات واسعة للتكيف مع الظروف المعاصرة".

وعلى هذا الأساس، فإن الإدارة في صورتها الحديثة تعتمد على الموظفين الذين يحبون الابتكار والتغيير، فهم الرأس المال الحقيقي لأي منشأة، وأصبح الاتجاه في العمل الحكومي نحو مقاربة منظمات الأعمال التجارية كما في الشركات والمؤسسات.

والإدارة في هذه الصورة، لا تناسب البيروقراطية التي اعتادت على مقاومة التغيير والتطوير، وعلى إضعاف الموظفين حتى يكونوا تحت سيطرتها الكلية، والرقابة عليهم شخصيا بدلا من الرقابة على النتائج وجودة العمل، فضلا عن النظرة السلبية إليهم وعدم الثقة فيهم، فإذا كانت الإدارة في بعض الجهات الحكومية لا تستجيب إلى مبادئ الإدارة القديمة، فكيف بمبادئ الإدارة الحديثة التي ستدمر المصالح الشخصية لبعض البيروقراطيين؟!

ومن هذا المنطلق، تسعى البيروقراطية في بعض الجهات الحكومية إلى إقصاء الموظفين الذين تبدو عليهم علامات النبوغ وحب الابتكار، وذلك من خلال التضييق والتشديد عليهم لترك العمل في الجهة والبحث عن وظيفة أخرى، ولتبرير هذه الممارسة غير الأخلاقية يتم التمسك بحجة التسرّب الوظيفي وعدم وجود الحوافز!

وسلاح البيروقراطية في القضاء على خصومها، هو "التحقيق الإداري" الذي تستند إليه في إصدار قرار العقوبات على الموظفين، حتى تكون تلك القرارات نظامية من الناحية الشكلية، وحتى لا يتحمل الرئيس الإداري أية مسؤولية، وليس هذا وحسب بل يستخدم التحقيق الإداري أيضا في عملية التغطية على قضايا الفساد في حال كشفها من قبل الجهات المختصة كنزاهة وغيرها.

وكما هو معلوم فإن للتحقيق الإداري ضوابط وضمانات جوهرية لا يستقيم التحقيق إلا بها، وأي إخلال لها يبطل التحقيق وتبطل معها العقوبات الإدارية، ولكن في نظر بعض الجهات الحكومية فإن هذه الضمانات غير موجودة، ولم ينص عليها نظام تأديب الموظفين صراحة.

لذا، فإن للجهة الصلاحيات المطلقة في إجراءات التحقيق دون أدنى مسؤولية، والإشكالية الأخرى أن وزارة الخدمة المدنية تحكم على سلامة العقوبات بمجرد إجراء التحقيق!

إضافة إلى ما سبق، فإن المحققين أيضا لا يجدون الاهتمام الكافي، بالرغم من أنهم العنصر الرئيس في مهمة التحقيق، وبالتالي لا يجدون التدريب الكافي، والأكفاء منهم لا يناط بهم مهام التحقيق إلا نادرا، وبشكل عام فإن المحققين في إدارات المتابعة غير ملمين بضوابط التحقيق وضماناته، وتحرص البيروقراطية على مثل هذا الوضع حتى لا يخرج أحد الموظفين عن السيطرة، وبالتالي عدم تحقيق شهوة الانتقام والتنكيل لدى الرئيس الإداري.

ولهذا أصبح التحقيق الإداري وسيلة تنكيل وانتقام وإقصاء وانتهاك لحقوق الإنسان بدلا من أنه وسيلة من وسائل التثبت والتحقق والتبيّن وحفظ الحقوق.

والسؤال المطروح هنا: هل صحيح ما تدعيه بعض الجهات الحكومية أن الضمانات والضوابط غير منصوص عليها في الأنظمة؟

تجدر الإشارة هنا إلى أن ضمانات التحقيق متعددة، ويصعب إحاطتها في مقالة واحدة، لذا سيتم التركيز على أبرزها كأمثلة فقط، والتي منها ما يلي:

أ. يجب إحاطة الموظف علما بما نسب إليه من اتهامات، ومنحه فرصة لإعداد دفاعه قبل الجلسة المحددة لذلك.

ب. يجب تحقيق دفاع المتهم، وذلك من خلال شهود النفي والإثبات، وإطلاع جهة التحقيق على ما يقدمه المتهم من أوراق أو سجلات رأى أهميتها في نفي الاتهام عن نفسه.

فإذا خالفت الإدارة تلك المقتضيات الواجب توافرها في كل تحقيق تجريه وهي بصدد توقيع عقوبة تأديبية، وذلك بعدم إبلاغ المتهم بالمخالفات المنسوبة إليه قبل إجراء التحقيق، أو عدم تمكينه من دفع الاتهام عن نفسه، وعدم سماع شهادة الشهود، فقد هذا التحقيق صفته كإجراء ضروري قبل توقيع العقوبات، مما يستتبع بطلان قرار الجزاء المستند إليه لصدوره معيبا في شكله، لتخلف إجراءات جوهرية كان من الواجب احترامها.

ومن تطبيقات تلك الضمانات على سبيل المثال تبليغ المتهم بخطاب رسمي موثق، يتضمن التهمة المنسوبة إليه، والأدلة المقامة ضده، وهذا بالفعل ما تضمنته المادة "20" من نظام تأديب الموظفين التي نصت على أنه: ".. إذا لم يحضر المتهم فعلى مجلس المحاكمة أن يمضي في إجراءات المحاكمة بعد أن يتحقق من أن المتهم قد أبلغ بلاغا صحيحا.."، كما نصت المادة "21" من نفس النظام على أن " تكون جميع الإبلاغات بخطابات رسمية..."، وبالتالي يتم حضور المتهم لمجلس التحقيق بإبلاغه خطيا من قبل المحقق أو من قبل لجنة التحقيق، بخطاب إبلاغ يرسل إلى جهته التي يعمل بها، مع مراعاة تحقق وصول البلاغ إليه وتبلغه به.

أما فيما يتعلق بالاحتجاج بخلو التشريع من النص على الإجراءات الجوهرية للتحقيق، فقد ذهب فقهاء القانون الإداري في هذا الشأن إلى أنه، وإن كانت نصوص القوانين الخاصة بالتأديب لا تشتمل على أحكام تفصيلية لسير دعاوى التأديب ونظام المحاكمات، إلا أنه ليس معنى ذلك أن الأمر يجري بغير أصول وضوابط، بل يجب استلهام هذه الضوابط وتقديرها في كنف قاعدة أساسية كلية تصدر منها وتستقى منها الجزئيات والتفاصيل.

كما أن تفعيل ضمانات التأديب لن يكون مؤثرا إلا بوعي الموظفين بارتباط حقوقهم بها، إذ يمثل هذا الوعي الضمانة الأساسية في مواجهة تجاوزات سلطة الإدارة وتعسفها في مرحلة التحقيق.