من عجائب وضع المرأة في ثقافتنا وقوة الالتباس بين الشرعي والعرفي؛ أننا نحتاج، وفي القرن الواحد والعشرين لاستدعاء الشواهد من التاريخ؛ لنثبت وجود المرأة في الحياة العامة ومشاركتها في تفاصيلها المختلفة في العصور الأولى من الإسلام.

وذلك قبل أن تخضع الحياة الاجتماعية للمؤسسة الفقهية وتنظيرها "البشري" الذي كبل الفهم الديني بأصفاده وسيجه بأطره؛ وخضع لضغوط عصره وأنساق زمانه ومعطياته الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولعلّ من نافلة القول أن علم أصول الفقه لم يبدأ في التبلور تاريخيا إلا في نهاية القرن الثاني للهجرة، ومن إفرازته العديدة محاولة إعادة المرأة لأسوار البيت مستخدما قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)؛ بعد أن أثبتت تواجدا قشيبا في مناحي الحياة المختلفة الاجتماعية منها والسياسية في عهد ما قبل التنظير.

فالمرأة شاركت في الهجرة الأولى والثانية، وشاركت في الغزوات كمقاتلة ومطببة للجرحى، وبايعت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان يستجار بها كما يستجار بالرجل، وكانت تحضر مجالس الرسول الكريم وحلق العلم. بل كانت تشارك في صنع القرارات، وتستشار ويؤخذ برأيها كما حدث مع أم سلمة رضي الله عنها؛ وقبلها أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها؛ التي كانت داعمة قوية للرسول الكريم ويصفها ابن هشام في "السيرة النبوية" بأنها كانت للرسول وزير صدق على الإسلام.

فضلا على فضل السيدة عائشة رضي الله عنها في رواية الأحاديث وتفقهها في الدين وعلمها وفضلها، وصحابيات أخريات اشتهرن بالعلم والفضل كالصاحبية الجليلة فاطمة بنت قيس وغيرها.

أقر الإسلام الأعمال التي كانت تؤديها المرأة في عهد الجاهلية من زراعة ورعي ماشية وحرف يدوية كالغزل والنسج والتجارة بما تصنعه من زبد وسمن وجلود، وكانت المرأة تشارك في النشاط التجاري فتبيع في السوق المحلية أو العامة كسوق عكاظ. واشتهرت نساء كأم منذر بنت القيس بتجارة التمور في عهد الرسول الكريم، و"منشم" التي اشتغلت بالعطارة وغيرهما مما لا يتسع المجال لذكره هنا.

فعمارة الأرض ليست حكرا على جنس دون غيره، والأمانة التي حملها الإنسان وأبت السماوات والأرض حملها لم تمايز بين رجل وامرأة. وعندما أقر الإسلام بحق المرأة في الإرث وحقها في صداقها، كان بذلك يشرع لها الأبواب لاستثمار مالها وتنميته والاستقلال بتصرفها فيه. فأقر أهليتها القانونية في التعاقد والتصرف في أموالها بمجرد البلوغ، كما لزوجها أيضا أن يكلها أعماله.

لم يكن التعيش هو الشرط الوحيد لسعي المرأة للعمل، فالسيدة زينب بن جحش زوج الرسول الكريم كانت بارعة في دبغ الجلود والخرز، ولم تكن تعتاش من ذلك بل تتصدق بثمن ما تصنعه تقربا لله تعالى. فعمل المرأة أيا كان هدفه وسببه يساهم في تنمية المجتمع ودفعه قدما؛ وفي عمارة الأرض التي لا يمكن أن تتم بمجهود الرجل وحده. فمن العمل يستمد الإنسان -رجلا وامرأة- قيمة ومعنى حياته، ومهمة المرأة داخل البيت، لا تلغي دورها في الخارج وإن كان يجب عليها التوفيق بين عملها داخلا وخارجا..

وللحديث بقية غدا