الحقيقة أننا لم نكن هنا نلقي بالاً لبعض أسباب التحريض الطائشة والحض على الكراهية التي كان بعض "الطائفيين" يتقاذفونها هنا وهناك، لأنها في الواقع لم تكن على هذا النحو من الانتشار، لكن الوسائط الحديثة من تويتر وواتساب قد أسهمت دون شك في سرعة الانتشار، وزادت قاعدة المتأثرين بها تبعا للعدد الهائل من الناس الذين صاروا متعلقين بأجهزتهم ليل نهار يتلقفون من خلالها الحسن والقبيح من المواد، ولم يعد لوسائل التواصل التقليدية من إذاعة وصحيفة وتلفزيون ذلك الأثر الذي تقلص كثيرا.

أظن أن حمى التكفير والطائفية الدينية قد بدأت مع عودة فلول الجهاد الأفغاني، وكانت شرارتها "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، وما أعقبها من تكفير وتفجير على يد ميليشيا القاعدة ثم اتسع الخرق على الراقع بعد الغزو الأميركي للعراق، وتسليم العراق كدولة فاشلة تحت الإدارة الإيرانية وهي التي بدورها زادت من وتيرة التنازع الطائفي السني/ الشيعي من خلال التحارب بين القاعدة والميليشيات الطائفية الشيعية التي زرعتها إيران وتولت دعمها وحشدها من خلال ممثلها في الجهاز الرئاسي "الصوري" آنذاك نوري المالكي، وهكذا قادت سلوكيات الميليشيات الطائفية والانتهاكات التي تمارسها إلى رفع حدة التحزب ودرجة التمذهب وارتفعت وتيرة ما يتم تداوله من تحريض طائفي سني/ شيعي عبر الوسائط ثم فاقمت أوضاع سورية المأساوية، وكذلك التجذر الحوثي في اليمن من زيادة درجات الاحتقان والحذر مما حدا بالمتمذهبين إلى التمترس في دوائرهم "الطائفية" الضيقة في مواجهة للمد الطائفي المقابل.

وزاد من تأجيج ذلك اندفاع بعض الدعاة والوعاظ في الضفتين للانخراط في هذه الموجة طمعا في الجماهيرية والتزود من المريدين.

لا شك أن الاستراتيجيات السياسية – أحيانا – يكون ضمن توجهاتها تغيير المزاج العام وقسره على اتجاه محدد يتناسب مع الأهداف الاستراتيجية، بحيث ينخرط "عامة" الناس في هذا الاتجاه ويركبون الموجة الصاعدة دون تحسب للغرق، وقد تستمر الموجة المرفوعة حتى تحقق أهدافها أو بعضها ثم تنحسر بحسب الضرورات.

هذه الظاهرة لا تستطيع التخلص تماما من الذين انخرطوا فيها وآمنوا بها رغم أنهم دفعوا إليها دفعا لكن التوظيف "الديني" لهذه الموجات هو ما يجعل انحسارها تماما غير ممكن، وتكفينا ظاهرة توظيف أميركا للجهاد في أفغانستان وما أثمرته لاحقا من تطرف وتشدد والحال كذلك مع الموجة الطائفية التي تغذيها إيران حاليا في المنطقة من خلال عناصرها المزروعين في بعض المناطق العربية ليستثيروا النزعة الطائفية كلما خمد أوارها.

إن السياسة سلوك نفعي يسعى من خلالها السياسي إلى تحقيق الأهداف المرسومة حتى لو تعارضت مع الأخلاق ومع الأعراف السائدة، لكن الذي يكبح جماح السياسيين واتجاهاتهم النفعية البراجماتية هو الوعي الشعبي العام ويعزز من ذلك دور النخب الثقافية العارفة التي تمثل رأي الناس في البرلمانات المنتخبة، وكذلك جمعيات النفع العام وغيرها من المناشط الاجتماعية التي تنشر الوعي وتحذر القواعد العريضة من الناس من خداع السياسيين وتكاذبهم.