أول من أمس، هاتفني صديقي الشاعر الذي يسكن السهول، وفي أثناء حوارنا حول الأحداث المحيطة، قال لي: "يا أخي أنتم امجبالية مواقفكم حادة كجبالكم ما عندكم خط رجعة ولا تراجع"، فقادتنا هذه الجملة إلى الحديث عن أثر البيئة في الطبائع، والمواقف، وطرائق التفكير.

بعد المكالمة، تأملت طبائع أبناء الجبال أمثالي، فوجدتهم أهل حدة في المواقف، يصعب تنازلهم أو تراجعهم عنها، وهو ما لا يستطيع فهمه أولئك الذين يحاولون شراء ذممهم، أو ابتزازهم بالإهانة أو الظلم أو الإقصاء أو الجحود أو التشويه أو التقارير الكاذبة، وكأنّ الثبات على المبدأ معادل لثبات جبالهم. ثم تساءلت عن مدى تعلقهم بتلك القمم، فوجدت أنه لا تعلق يشبه تعلق أبناء الجبال بها، حتى إنها تأتي في مرتبة متقدمة في قائمة العناصر البيئية التي يستمد منها شعراء الجبال صورهم، إذ يجعلون من الجبل معادلا لكل شموخ، ورمزا لكل ثبات وهيبة؛ لأن الجبل أقرب العناصر إلى الحس عندهم، وأصدقها في التعبير عن الهوية، وليس أدل على ذلك من أن عنوان الديوان المشترك الأول الصادر سنة 1404هـ، لستة من شعراء عسير هو: "قصائد من الجبل"، مما يشي بأن هؤلاء الشعراء الجبليين، أرادوا بهذا العنوان أن يقولوا: هذه قصائد تستمد من الجبال لغتها وصورتها وهويتها وثباتها على المبدأ.

وعند النظر في شعر أبناء الجبال، نجد الجبل حاضرا في أكثر الأفكار والصور، فهذا الشاعر عبدالله الزمزمي – رحمه الله - يقرر أنه يستمد معانيه من قمم الجبال:

وتَخِذت من قمم الجبال معانيا..

عذْبٌ بها الإيجاز والإطنابُ

أما إبراهيم طالع الألمعي، فإنه يرى في الجبال قدره، بالرغم مما توحي به من: الشدة، والوعورة، فيقول:

وما ذنبي إذا كانت حياتي..

تريد سهول آخرتي جبالا؟

ومن هذا التعلق، يمكن – نفسيا – أن نفسر عناد أهل الجبال، ويمكن إفهام من لا يريد أنْ يفهم أن تلك طبيعة راسخة في أهلها الذين ينظرون إليها بوصفها كائنات حية، لا بوصفها جمادات، ولذا فإن تشخيصها من المظاهر الواضحة في تصويرها عند شعرائها، وهو ليس تشخيصا مجردا، وإنما هو ذو دلالات مهمة ترتبط بعلاقة الشعراء بهذا العنصر الطبيعي، الذي يحاورونه، ويقولون على لسانه، يستوي في ذلك مقلدوهم ومجددوهم.

من أوائل الشعراء الذين شخصوا الجبال، الشاعر عبدالله بن علي بن حميد – رحمه الله - في وصفه  لجبل تَهْلَل، حين أدار حوارا بين: مدينة أبها، وجبل تَهْلَل، ومنه:

يرنو إليها تَهْلَلٌ..

طَودٌ سما فوق الجبالْ..

يقول: ما لبنيّتي..

قد أغفلتني كالمحالْ؟

و"تَهْلَل" ابن حميد هنا، هو المتحدث الرسمي باسم كل جبلي راسخ راسٍ يتألم معزولا في: "موسم الهجرة إلى اليباب" الذي أشار إليه د. علي الموسى في مقاله قبل أيام.