في كل عام، وعند اقتراب شهر رمضان المبارك، يقوم بعض الدعاة ورجال الدين بشن حملة شرسة في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، ضد بعض القنوات الفضائية، واتهامها بالفساد العقدي، ونشر الفحشاء والمنكر والإلحاد، وكذلك نشر الثقافة الغربية، مطالبين بإلغائها ومحاسبة ملاك هذه القنوات، وعدّ البعض أن هذه الحملة "تعبير مطلوب عن ممانعة المجتمع على عقيدته وقيمه وأخلاقه وينبغي أن يرتفع صوت هذه الحملة حتى تؤتي أكلها"!.
كما قام أحد الدعاة بنشر ما يسميه تجاوزا بدراسة علمية، قام صاحبها باستقراء إحدى القنوات الفضائية، وتوصل فيها إلى نتائج خطيرة تهدف إلى إفساد المجتمع المسلم، ويرى ذلك الداعية أن من يشك في نتائج هذه الدراسة، فعليه مراجعة دينه! مع أن تلك الدراسة المعروضة مجرّد إحصاءات ساذجة وسطحية لأفلام أميركية معروضة في جميع القنوات التلفزيونية والإنترنت، وبعيدة كل البعد عن الفكرة الأساسية لتلك الأفلام!
أما البعض الآخر من الدعاة، فيرى أن تلك القنوات هي "جزء من خارطة طريق لإضعاف الممانعة وقبول الوباء المستورد"، وربما كان القصد هنا هو قبول الثقافة الغربية والحداثة والعلمانية، كما قام كثير من الدعاة بترديد الحديث الشريف "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ"، وهذا إيحاء بعظم المسؤولية وخطر مشاهدة هذه القنوات، وسماح الرجل لأهله وأطفاله بمشاهدة برامج الخزي والعار فيكون غاشّاً لرعيته!
ونتيجة هذه الحملة، يتساءل كثير من الناس عن سرّ اختيار قنوات بعينها دون الأخرى على الرغم من نشر نفس مضمون البرامج والأفلام؟ ولماذا هذا التوقيت بالذات؟ كما أن الدعاة أنفسهم كانوا يظهرون في هذه القنوات ويتقاضون أجرا منها؟ وقد تدارك أصحاب الحملة هذا الأمر بالقول "إن لتلك القنوات نسبة عالية من المشاهدين من الأسر السعودية، إضافة إلى التمادي في إظهار المفاسد الأخلاقية، خصوصا في المسلسلات التي ستعرض في شهر رمضان دون مراعاة لحرمة الشهر الفضيل، ولهذا تمت مقاطعتها وعدم الظهور فيها".
لن أدخل في النوايا أو القول بتصفية الحسابات وما إلى ذلك، ولكن من باب الإنصاف الإشارة إلى أن حتى بعض الدول الأوربية تقوم بمنع بعض الأفلام الأميركية وتدور سجالات طويلة في البرلمانات، فكان بعضهم يرى السماح لهذه الأفلام، وفي مقابلهم يرى المنع لأسباب ثقافية أو أخلاقية، ونجد فيما بعد السماح لهذه الأفلام فلكل مجتمع حدود ولكنها متغيرة دوما، فلا أحد يقرر أن كل شيء مباح وممكن في وقت واحد.
لكن للأسف، فقد نسي بعض رجال الدين أن عصرنا اليوم هو عصر انفجار المعلومات والاتصالات، وأن العالم بات على هيئة قرية عالمية صغيرة، وكثير من البرامج والأفلام تصل إلى عيون الصغار والشباب والكبار، بل الأدهى من ذلك أن القنوات الإباحية منتشرة في كل مكان وبشكل كبير، كما أن كتب الإلحاد والأديان أصبحت في متناول اليد بكل سهولة وبضغطة زر واحدة! فكثير من الأمور التي يظن البعض أنها إذا مُنعت لن يشاهدها الناس، فإنها تشاهد بأشكال مختلفة وجذابة.
للأسف الشديد، يتعامل بعض الدعاة مع المجتمع على أنه مجتمع طفولي وسفيه لا يعرف مصلحته وعاجز عن تحمل المسؤولية، وبالتالي يجب فرض الوصاية عليه، خصوصا فئة الشباب من الذكور والإناث، فقد اعتاد رجال الدين على ذلك النظام التربوي والتعليمي الذي يعتمد على أسلوب التلقين والطاعة العمياء، وهذا هو الانحراف بعينه.
هذه الوصاية تنتج شبابا لا يستطيعون تحمل المسؤولية، عديمي الثقة في أنفسهم وفي مستقبلهم، يكرهون كل جميل في هذه الدنيا، فقد تزعزع عقيدتهم كلمة أو رأي مخالف، ويلهثون خلف الإباحية والجنس أينما وجدت. صحيح أن الإعلام، خصوصا الإذاعة والتلفزيون لهما تأثير كبير على المجتمع، ولكن ما الفكر الديني الذي قدمه الدعاة ورجال الدين للشباب من خلال هذه الوسائل؟
للأسف، برامج دينية ساذجة وسطحية تثير العواطف، لا تصلح إلا لفئة الشباب المؤدلجين والعاجزين عن الفكر والتفكر، أو برامج فتاوى مكررة حفظها الناس مسبقا، وبرامج أخرى لا يفهمها عامة المجتمع، أو برامج طائفية تحرض على الكراهية والعنف. في مقابل برامج تتحرك بآليات العصر الحديث، وبآليات المنطق والتفكير والعقلانية لا يؤخذ بها بل يتم اتهامها بالفجور والإلحاد.
البرامج الدينية في وسائل الإعلام تتناسب مع المجتمعات المنغلقة والحياة البسيطة، وفي حين أن الناس اليوم انفتحوا على العالم، واطلعوا على مظاهر جديدة من مظاهر العصر الحديث، وأن البرامج الدينية لا يفهمون مضمونها ولا لغتها، لا يزال الدعاة يتعاملون مع الناس في برامجهم على أساس الأمر والنهي والتكليف، لا على أساس التجربة وكشف حقائق الحياة.
إن الحملة التي قام بها الدعاة والمشايخ ضد القنوات الفضائية هي أكبر دليل على ابتعاد الفقه التقليدي عن واقع الحياة، وعن واقع الشباب، إضافة إلى فشل القنوات الدينية في استقطاب شريحة كبيرة من الناس، وبدلا من دراسة وتحليل أسباب هذا الفشل الإعلامي، تم إلقاء اللوم على الآخرين، متجاهلين في الوقت نفسه أن سبب ابتعاد الناس عن البرامج الدينية هو أساليب الدعاة ورجال الدين القديمة.
ربما لاحظ البعض كيف تعامل الشباب مع الحملة الأخيرة في هذا العام، وذلك من باب السخرية والنقد وإثارة الأسئلة، والقول إن الدعاة قاموا بحملة دعائية جانية لمسلسلات رمضان هذه السنة على سبيل المثال، وربما يتذكر البعض قبل عشرات السنين تلك الخطب الرنانة في التحذير من الأطباق الفضائية وعالم الإنترنت، وها هم الدعاة اليوم يدخلون هذا العالم ويستخدمون وسائله ولكن بفكر الأمس القديم!، والتحدي الحقيقي لحماية المجتمع من الانحراف هو إيجاد ثقة وممانعة لدى الشباب في مواجهتهم للعوامل المختلفة التي يمكن أن تؤثر فيهم تأثيرا سيئا، وليس بالوصاية والوعظ الكلامي.