هنالك موت بائس يغطي موتا. قصة تطمر قصصا أخرى، لذا لم نتمكن جيدا من توديع الذين ذهبوا في فوضى العالم والموت الجماعي، فحزن واحد لا يكفي أبدا للجميع.
لا يكفي لينبت الزهر على قبور الأطفال الذين ذهبوا جراء براءتهم وقلة حيلتهم. حزن واحد لا يكفي لكل هذا الدمار العربي المخيب للآمال. كل يوم ثمة موت شاحب يأتي بمبررات ضعيفة ونتائج واهية. الأمر الذي يقودنا إلى مسلسل لا نهائي من الفانتازيا المقلقة، فجنة الربيع تحولت إلى فوهة جحيم.
علينا كل يوم أن نتحاشى نشرات الأخبار، نتحاشى الصور، كي لا يفسد الموت بهجة يومنا، وإلا سنتورط في كآبة لا نهائية.
كنت أقرأ كتابا يحوي عددا من المقالات المُهمة للمفكر الكيني الذي ينتمي إلى أصول عُمانية، علي المزروعي، تحت عنوان: "براهمة العالم ومنبوذوه"، ترجمة زميلنا المثابر أحمد المعيني. المفارقة أن زمن كتابة مقالات الكتاب تعود إلى نهاية ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ولكنها لا تزال تضج بحرارتها كأنها كتبت لواقع اليوم.
فلا تزال هذه العبارة تُفاجئني: "ضحايا الإرهاب من المدنيين أقل من ضحايا الحرب. الإرهاب هو سلاح الضعفاء عسكريا لأن الأسلحة النووية هي سلاح المتطور تقنيا".
إنه يقول صراحة: الإرهاب يحدث ضررا أقل من ضرر الحرب وموت الحرب!
والأسوأ من ذلك.. الأرواح في العالم غير متساوية، فنحن نعيش ضمن مراتب وطبقات، وكل فرد منا تتحدد قيمته بقيمة الفئة التي ينتمي إليها. هذا ما نعيشه اليوم تماما.. أناس تنتمي حقوقهم وأرواحهم إلى فئة "البراهمة"، وأناس ينتمون إلى فئة "المنبوذين" الأقل حظا في كل شيء. لكن السؤال الأهم: هل هنالك ما يبرر الطبقية، ما يجعل بعض الدماء رخيصة تُنسى بذات اللحظة وكأنها لم تكن، وأخرى يتذكرها العالم؟ بل نجدها تُفسح المجال لسلسلة لا آخر لها من التبعات، سيضطر الملايين من المسلمين لتحمل مُضايقاتها، كما حدث عقب تفجيرات برجيّ التجارة العالمية في أميركا، أو كما حدث مؤخرا في حادثة مجلة شارل إيبدو والجنازة المُهيبة، بينما يموتُ أطفال فلسطين وسورية والعراق واليمن بالجملة من دون أن يرف رمش العالم المتوحش.
كل مسلم اليوم يحفظ تاريخ تفجيرات 11 سبتمبر كما يحفظ اسمه، بينما ينسى الموت العربي في كثير من صوره وتواريخه وكأنه بلا فواتير!
ذهب "المزروعي" إلى أن فكرة التقدم تبرر تصنيف المجتمعات من البدائية إلى المتحضرة. فنحن سكان آسيا وأفريقيا محكومون بتراجع الصناعة وبتراجع النفط وبتراجع الاختراعات، وبوفرة الأمية، نحن نُثمن الآن بالمنجز الذي نقدمه للعالم، وأمام هذه الحسبة الصغيرة نحن دم رخيص للغاية، لا ننتج ولا نُصدر سوى "الإرهاب"؛ لذلك علينا ألا ننتظر كثيرا، فـ"المساعدات الخيرية" هي أقصى ما يمكن أن يُقدمه البراهمة للمنبوذين، ليكونوا أكثر ولاء لليد التي تمتد إليهم، وعليهم ألا ينتظروا أكثر من هذا إلى أن تقوم لهم قائمة، أو إلى أن نتخلى عن دور الدُمى التي يعبثُ الآخر بخيوطها فيحركها كيفما يشاء، وأيضا عندما نُدرك أن المسألة لا تأتي بقوة السلاح والبطش وإنما تأتي بتغيير منظومة التفكير والخطاب أولا في البيت والمدرسة والمسجد، وبإعادة النظر للإنسان ككائن يستحق الحياة ولقمة العيش الكريمة قبل الإمعان بقتله.