ماذا يحدث لو وجدت نفسك عالقا بين عالمين؟ بين زمنين؟ أو ربما  بين مرحلتين مختلفتين تماما في واقعهما ومعطياتهما ونتاجهما المتوقع؟ لقد وجد "فيكتور نافورسكي" نفسه في مثل هذا الموقف حينما وصل لمطار جون كيندي في مدينة نيويورك قادما من دولته "كراكوجيا" التي صادف أن حدث بها انقلاب عسكري وهو في رحلة القدوم أطاح برئيسها ومعاونيه، وعمت الفوضى بعدها في البلاد.

أخّر عائق اللغة الإنجليزية على السيد نافورسكي فهم أنه عالق في ذلك المطار، لأن نظام الولايات المتحدة لن يسمح له بالدخول إليها لاعتبارات سياسية تتعلق بعلاقتها مع دولته "كراكوجيا" التي لم يعد معترف بها بعد الانقلاب، ولم يكن أمام نافورسكي من خيار سوى البقاء والانتظار، فليس باستطاعته التراجع للخلف والعودة إلى دياره، ولا المضي قدما للذهاب نحو حلم كان يريد تحقيقه ولأجله قطع كل تلك المسافات. المساحة المتاحة له للانتظار كانت في الصالة الدولية التي وجد له فيها مكانا مهجورا قرب البوابة 67.

تعلّم مع الوقت كيف يتدبر أمره في مكان لا يتوقف فيه أحد لأجل أحد، تعلّم كيف يوفر لنفسه وجبات الطعام، كيف يجمع القليل من المال، وكيف يخلق لنفسه مجتمعا في تلك البقعة المحدودة والصغيرة للغاية بمساحتها مقارنة بالعالم الذي جاء منه أو ذاك الذي يطمح بالذهاب إليه، تلك المساحة الغنية جدا بالعابرين خلالها وخطاهم المتسارعة. كل يوم الكل يمضي قدما وهو باق مكانه لم ييأس من محاولة المرور بضع خطوات نحو البوابة/ الحلم.

لم يرق هذا التأقلم مع تلك الحياة الموقتة التي استطاع أن يخلقها نافورسكي لنفسه لمراقب الأمن الميداني هناك الذي حاول في البداية أن يخلق "صدعا" في النظام ليتمكن من خلاله نافورسكي من الهرب لمدينة نيويورك ولكنه لم يفعل، وحاول مرة أخرى أن يدخله كلاجئ أو هارب من دياره لسوء الأوضاع فيها مقابل انتزاع اعتراف منه أنه يخشى العودة إلى بلاده، ولكن إجابة نافورسكي العفوية بأنها: "دياري، وأنا لا أخشى دياري" جعلت هدف المراقب بعدها حرمانه من دخول "أميركا" بالمرة، وإجباره على العودة إلى كراكوجيا حتى لو أُتيحت له الفرصة للدخول لنيويورك.

لم يفقد نافورسكي الأمل ولم يمل من المحاولة في أن يتقدم كل يوم لطلب التأشيرة للدخول، كما لم ينس بلده التي ينوي العودة لها حينما يُنجز ما أتى من أجله في نيويورك. مضت عدة أشهر وهو على قيد الانتظار، التقى خلالها بمضيفة الطيران "إميليا وارن" وأصبح لديه بعدها هدف جديد ينتظر من أجله ويتحمّل. في لقاءات مختلفة ودراما انتظار متعددة لتلك المضيفة استطاعت إميليا أن تسأل نافورسكي عن سر علبة الفول السوداني المحمصة والمليئة بقصاصات من الأوراق التي يحملها باستمرار في حقيبته، أجابها أنه يحمل داخلها "وعدا" وهو ما يحاول لأجله أن يدخل لنيويورك ولو لبضع ساعات!

يقول نافورسكي إن والده في عام 1958 استمع لفرقة جاز مكونة من 57 شخصا لمدة خمسة أيام، ثم قرر لفرط إعجابه بهم أن يراسل كل شخص من هؤلاء السبعة والخمسين عازفا ليوقع له على قصاصة باسمه، وخلال أربعين عاما استطاع أن يجمع 56 توقيعا لأفراد هؤلاء الفرقة، وتبقى شخص واحد "بيني غلسون" عازف الساكسفون، لأن والده مات قبل أن يحصل على توقيعه، وقرر نافورسكي أن يذهب بنفسه إليه في نيويورك، حيث يقيم حفلاته ويأخذ توقيعه كوفاء لوالده ولشغفه بذلك، ويضعها مع الأخريات في علبة الفول السوداني المحمصة الصدئة.

في إحدى فترات انتظاره لإميليا حيث هو عالق في المطار منذ شهور طويلة وبالقرب من البوابة 67 حيث يقيم، كان قد بنى نافورة كإجابة عن سؤاله: إن كانت تعرف ما الهدية التي قدمها نابليون لزوجته جوزفين ليلة زفافهما؟ لم يكن العمل الفسيفسائي الذي بناه في منطقة مهجورة في المطار مدهشا لإميليا بقدر اندهاشها من قدرته على الانتظار كل هذه الفترة في المطار حتى يحقق وعدا لرجل ميت، وينتظر قدرا لا يعلم إن كان يستحق الساعات التي يبقى رهينا لها في رجائه. عادت الشرعية إلى كراكوجيا وأصبح هدف المراقب الميداني لإخراجه من المطار - لبلده مباشرة - وشيكا لولا تدخل إميليا والمجتمع الموقت الذي خلقه لنفسه في المطار بلطفه وعفويته، فاستطاع الذهاب لحلمه/ وعده، حيث يقف عازف الساكسفون ثم العودة إلى بلاده.

لو بحثت على الخارطة عزيزي القارئ عن دولة كراكوجيا لن تجدها، ولا السيد نافورسكي موجود في الواقع، فهو بطل للفيلم الأميركي The Terminal الذي أُنتج عام 2004 من بطولة توم هانكس، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية لمسافر إيراني يدعى مهران كريمي عاش لمدة 18 عاما في مطار شارل ديغول في فرنسا مع تصرف درامي كبير.

لو استعرضنا قصة السيد نافورسكي مجددا بالتوازي مع حياة كل واحد منّا، ومع طرح بعض الأسئلة، وليست جميع الأسئلة تحتاج بالضرورة إلى أجوبة تقيّد انطلاقها، تُرى هل نحن عالقون بطريقة ما بين زمانين، عالمين، أو مرحلتين فكريتين سنحتاج إلى تجاوزهما إلى خطوة جريئة، أو صدع خفيّ في جدار قناعاتنا؟ هل نحن مشدودون للخلف لا نستطيع تجاوزه بالرغم من تطلعنا للأمام؟ وإن كان هذا هو الواقع، ترى أي حياة استطعنا أن نعيشها برضا ريثما نحن عالقون على مشجب الانتظار؟ وأي صدف قد يقودها الانتظار لنا؟ هل ننصف أنفسنا وقلوبنا معها أم نفلتها من بين أيدينا ولن ندرك قيمتها إلا بعد فوات الأوان؟ هل عملنا ما يجب تجاه أحلامنا، وشغفنا، ووعودنا لأنفسنا والآخرين؟ وكم حلما وهدفا تنازلنا عنه تحت وطأة اليأس أو تدخل "مراقبين" هدفهم التدخل فقط؟ وهل هناك فعلا ما يستحق الانتظار طويلا؟! وأخيرا: هل تعلمون ما الهدية التي قدّمها نابليون لحبيبته جوزفين ليلة زفافهما؟ لقد كانت قلادة ذهبية نُقش عليها كلمة: "destiny" القَدر!