عمر مشاري المشاري
خطيب جامع بلدة الداخلة
من فضل الله على عبده أن يبلغه العشر الأواخر؛ لما فيها من فضل عن سائر أيام السنة، والعمل الصالح فيها يضاعف أكثر من غيرها؛ لذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، فإذا دخلت العشر أيقظ أهله وشدَّ مئزره، وعن عائشة –رضي الله عنها-أن النبي صلى الله عليه وسلم "كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ".
وعن عائشة- رضي الله عنها- أن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقوم من الليل حتى تتفطر – تتشقق- قدماه. فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟". وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قُربة إلى ربكم، ومكفِّر للسيئات، ومنهاة للآثام".
ونحن في هذه الدنيا في دار عمل، والجزاء على هذا العمل إنما يكون في الآخرة، فمن عمل صالحا، فليبشر بجنات عدن يدخلها برحمة الله، ومن عمل سيئا فلا يلومنَّ إلا نفسه.
وكلما كان العبد أكثر عبادة لله، كلما أحبَّه الله، كتب أبو الدرداء–رضي الله عنه- إلى مسلمة بن مخلد: "أما بعد: فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبه الله، فإذا أحبه الله، حببه إلى خلقه، وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغضه إلى خلقه". وقال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".
وقال الحسن –رحمه الله-: "يتوسّد المؤمن ما قدّم من عمله في قبره إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة".
فعلى المسلم أن يكون مسابقا في هذه العشر إلى الخيرات؛ لينال غدا أرفع الدرجات، فالجنة درجاتٌ، كلما ارتفع المرء درجة كلما زاد نعيمه، وأعلى هذه الدرجات، الفردوس الأعلى، والتي يكون فيها الخلُّصُّ من عباد الله، وهم المقربون، وأهل هذه الدرجة هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن اختصهم الله بكرمه ونعيمه الذي لا نعيم أكبر منه، جعلني الله وإياكم ووالدينا وذرياتنا من أهلها.
والعاقل الموفق هو الذي يغتنم الأوقات الفاضلة، لزيادة القرب من الله، وكثرة عبادته، ولقد كان الصحابة الكرام وتابعوهم وصالحو الأمة وعبَّادها، يجعلون هذه الأيام أيام عبادة، ويتخففون من مشاغل الدنيا، فينصرفون عنها، شغلا بنوافل الصلوات، ونوافل العبادات، ويكثرون فيها من قراءة القرآن الكريم، فيختمونه في ثلاث ليال، أي يختمونه ثلاث مرات في هذه العشر، وكذلك يكثرون فيها من الاستغفار والدعاء، ويحيون الليل بالقيام، فيدركون قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، ليس كحال الكسالى في هذا الزمن الذين لا يقومون جميع ليالي هذه العشر، بل يقومون بعضا ويتركون بعضا، فيندمون على تفريطهم وتقصيرهم، ويتحسرون على عدم قيام جميع لياليها، إنَّه لعجبٌ أن يفرِّط في قيام ليلة القدر مفرِّط، كيف يزهد في قيام ليلة هي خير من ألف شهر؟!
قال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ".
فعلى المرء أن يحرص على قيام الليل طول أيام السنة حسبما يستطيع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، ويزداد نشاطا في العبادة وفي قيام الليل في شهر رمضان، خصوصا العشر الأواخر منه، وعلى الفتى والفتاة أن يعوِّدا نفسهيما على ذلك، قال محمد بن عبدالعزيز السائح: حدثنا أبي قال: كان فتى من المتعبدين له ورد من الليل يقومه ففتر عن ورده ذلك، قال: فبينما أنا ذات ليلة راقد رأيت في منامي كأن فتى وقف علي فقال لي:
تيقظ لساعات من الليل يا فتى
لعلك تحبى في الجنان بحورها
فتنعم في دار يدوم نعيمهـا
محمد فيها والخليل بدورها
فقم فتيقظ ساعة بعد ساعة
عساك تفضي ما بقي من مهورها