كنت صريحا عندما قلت للصديق والسياسي البريطاني، أثناء لقاء بالأسبوع الماضي جمعني به: "لا أفهم أين بريطانيا مما يحدث اليوم في الشرق الأوسط، لا دور لكم إطلاقا، بتم مجرد تابعين وخدم ومنفذين لسياسة الولايات المتحدة في العالم". وأكملت باندهاش مصطنع، ربما حمل شماتة الشعوب التي استعمرت قبل قرن من الزمان: "أين تلك الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، باتت منخذلة ومتصاغرة في جزيرة صغيرة، لدرجة أن سياسة فرنسا غريمتها أقوى وأكثر حضورا لدينا منكم"!
من بعد حادثة 11 سبتمبر الشهيرة، توافد علينا كثير من المراسلين الغربيين، والإعلاميين، والباحثين الذين يمثلون الجامعات الغربية ومراكز الأبحاث العالمية، وبالتأكيد أن معظمهم يتبعون استخبارات الدول التي ينتمون لها. ويجري هؤلاء لقاءات مع النخب الدينية والمثقفة السعودية، لاستمزاج آرائهم حيال ما يحصل في المنطقة. ولم أفوت فرصة الحوار مع هذا الصديق الذي ألتقيه للمرة الثانية، خصوصا أنه جاء مفزوعا يسأل عن "داعش" وسبب انتشار فكره في أوروبا.
قلت له: "بكل صدق، كيف تقرؤون الأحداث التي تجري في السعودية اليوم"؟ أجابني: "أذهلنا الملك سلمان بقوته، واستطاعته جمع كلمة هذه الدول. نحن نوقن اليوم بأن السعودية هي الدولة الوحيدة القادرة على ترتيب فوضى الشرق الأوسط، وأي حل بدونها سيفشل"..
بادرته: "أخشى أنك تجاملنا وتتجاوز دولا لها تأريخها، ليتك تبرهن على تحليلك هذا"، فرد مباشرة: "لنبدأ بدول الخليج، فمهما تضخمت قطر أو الإمارات، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا بأدوارهم حقيقة ثقلهم. أما مصر، فقد شغلت بالكامل في شؤونها الداخلية التي ستأخذ وقتا طويلا كي تحلّ. سورية والعراق لديهما حروبهما الداخلية. ليس هناك سوى السعودية التي بيدها حلّ وترتيب ما يحدث في الشرق الأوسط".
بحثت مع هذا الصديق البريطاني، الذي يعرف المنطقة جيدا وخدم دولته سنوات في العراق، عن موضوع اليمن، وسألته عن عاصفة الحزم وكيف هي رؤيته لنهاية الحرب، فرد بقوله: "نحن ننظر على أن ما فعلته السعودية جاء في وقته، لأن الحبل الإيراني كان يلتف حول عنقها، كان لا بد من هذا التدخل، ولكن ستخطئون جدا لو دخلتم الحرب البرية، فاليمن وعرة في جبالها، ودونكم كيف كان فشلنا والولايات المتحدة في أفغانستان. الحل في رأيي، استمرار هذا الحصار المشدد على دخول أية أسلحة أو معونات للحوثيين، والصبر على حرب طويلة حتى يسقطوا، لأن إيران -الداعمة لهم- تضعف يوما بعد يوم بسبب هبوط أسعار النفط ودخولها في سورية والعراق، ويتوازى مع ذلك تدريب وتسليح المعارضة اليمنية بشكل جيد. وشراء القبائل وضباط علي عبدالله صالح الذين ستضعف همتهم مع طول الحرب".
كانت نظرة الصديق البريطاني لـ"داعش" أنه سيستمر طويلا للأسف، بل وسيقوى بعض الشيء، بسبب أيدولوجيته الساحرة في استقطاب الشباب، وكان قلقا حيال التحاق الشباب البريطاني بالتنظيم، ورددت عليه: "تنظيم داعش نشأ في أجواء حرب سورية، وكثير من المحللين الذين استضفتهم يقولون بأنه إذا حلت مشكلة سورية، فـ"داعش" سيختنق ويتصاغر ويضمحل، لكن الولايات المتحدة وأنتم من خلفها، لا تريدون حلا للمشكلة السورية، وترون بقاء النظام السوري الظالم، لذلك ما زلنا نلوب في ذات القضية دون حل. التقارب السعودي التركي أدى لهذه الانتصارات الأخيرة، ولولا مشكلة اليمن لكان الحسم هناك في سورية".
وبادرته بكل حنق: "أستغرب رؤيتكم لـ"داعش"، أنتم البريطانيون يشهد لكم التأريخ بقوة استخباراتكم، بل ودهاؤكم أكثر من الاستخبارات الأميركية الساذجة، التي تتعاطى مع الأمور بسطحية. أنتم الذين عندما رحلتم عن المنطقة قبل عقود، تركتم لنا هذه الألغام الحدودية، كي نختلف ونعود لكم كسادة، أستغرب تماما أن استخباراتكم العريقة لم تخترق "داعش".. سامحني فأنا لا أصدق هذا الكلام، بل أبعد من ذلك؛ أشعر في داخلي بوجود قادة لكم أيضا في هذا التنظيم تديرون من خلالهم كل شيء، أنتم والأميركان والصهاينة".
رد عليّ باسما هذه المرة: "للأسف لم نخترق هذا التنظيم لتوحشه الشديد، فضلا على دهائه وخبرته الكبيرة، فهو يعمل كخلايا متفرقة، حتى لو أمسكت أو اخترقت خلية، فلا تستطيع أن تتجاوزها لمرحلة أعلى".
نسيت أن أنقل لكم رده على تهكمي في بداية المقالة بدور بريطانيا، فالرجل قال لي: "البرلمان البريطاني منعنا في موضوع سورية، ونحن للأسف اليوم مشغولون بأمورنا الداخلية، وانضمامنا للاتحاد الأوربي عما يحدث في العالم".
صعّدت النظر طويلا، وتمتمت في نفسي: "هي دورة التأريخ، فكل دولة أو حضارة تسود دهرا من الزمن، ثم تجري سنن الله في الكون عليها، وتتآكل في داخلها وتنتهي، ولو عاد بنا الزمان إلى مئة عام، لن يصدق إنسان عاش تلك المرحلة أن بريطانيا، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، تنتهي إلى هذا الدور التافه لها في أحداث العالم".