لم أستطع النوم ليلة الخميس الماضي حتى شاهدت عامل المنجم المحتجز الأخير يعود إلى سطح الأرض في لحظة انتصار بالغة الإنسانية. لم أشاهد المحتجز الأول ولكنني كنت حريصاً على رؤية الأخير فما هو الدرس الأول في أروع تغطية تلفزيونية شدتني إلى التفاصيل ولم تأسرني قصة أخرى بمثل ما كنت أسيراً لهذه القصة. يأخذني الخيال البعيد في – قصة الحرية – إلى أكثر من أن نجسد هؤلاء مجرد 33 عاملاً حجزهم انهيار منجم. تخيلوا أنهم 33 أمة أو شعباً أو وطناً أو مجتمعاً من بين بعض أو كثير من الشعوب التي لم تمسك بعد بحبل الحرية. الفارق بين من كان على السطح وبين من كان في المنجم هو ذات الفارق بين الشعوب الحرة وبين بقية الشعوب التي مازالت تعيش بالمجاز في كهوف مغلقة. حبل الحرية هو حبل الأفكار، هو الحرب على الفكرة الاستبدادية التي مازالت في القرن الحادي والعشرين تحتجز شعوبها في أقبية منجم. تحتجزها بفكرة الكهنوت أو بسطوة الطاغوت وكالعادة لا عمل لأصحاب المنجم إلا الخطاب الذي يشتم أهل السطح.
وعندما سألوا الرهينة الحادي والعشرين: هل ستعود إلى العمل، كان حاسماً حازماً، ونعم سيعود. ومرة أخرى تخيلته شعباً أو مجتمعاً من تلك الأمم التي تظن أنه لا توجد على البسيطة الواسعة من شيء إلا ذات المنجم الذي اعتادت عليه وأن لا حياة على الأرض إلا حياة المنجم. وأصعب اللحظات بالتحديد هي تلك التي يكون فيها الفرد أو المجتمع داخل ـ الكبسول ـ في الطريق إلى الحرية. المسافة التي يقطعها حبل الحرية إلى السطح هي حرب الأفكار ضد الكهنوت والطاغوت وهي اللحظة التي يركبها المجتمع أو الفرد مغادراً مساحة المنجم التي يظنها أكثر اتساعاً ورحابة من مسافة الطريق المظلم الصعب بداخل أنبوبة معتمة لا تتسع لأكثر من مساحة الهواء في رئتيه. قالوا له من قبل إن أخطر المراحل هي تلك ـ عبر الأنبوب ـ لأنها النهاية الحتمية إن اختلت ـ ميكنة ـ حبل الحربة أو انهارت جدران الأنبوب: أخطر المراحل إلى الحرية هي الشجاعة أن تركب ـ الكبسول ـ وأن تصل نصف المسافة ما بين السطح وبين المنجم. تخيلوا أن العامل الأخير هو من أغلق على نفسه باب ـ الكبسول ـ فلم يجرؤ أحد من أهل السطح أن يركب ذات النفق إلى منجم الكبت رغم أنه يعود لباطن الأرض خاليا من الحملة: من هو الذي سيغامر بالدخول لعالم الاستبداد من فوق سطح الحرية؟ تخيلوا لو انقطع ـ حبل الحرية ـ في منتصف المشوار وكيف سيعود الأمل في الحرية إلى نقطة الصفر!!