في حياة الإنسان طريقان حتميان لا ثالث لهما، الأول هو أن "يحيا" من خلال لحظة الميلاد، تلك اللحظة المبهرة التي لا يعيها الإنسان ولا يتذكرها، التي تبدأ بصرخة أولى يتحوّل الإنسان من خلالها إلى كائن متكامل رغم ضعفه، فيبدأ طريقه الأول في الحياة التي لم تكن خيارا بالنسبة له.

والطريق الثاني، طريق حتميّ بالنسبة للإنسان أيضا، هو أن "يموت"، فالموت نهاية محتومة تعني طي صفحة الحياة الدنيا إلى الأبد. وما بين هذين الطريقين الحتميين، يستطيع الإنسان صنع طريق ثالث (لا حتميّ) خاص به، وهو أن "يعيش".

وميزة هذا الطريق هو أنه خيار، لا إجبار، إذ من حق الإنسان -باعتباره إنسانا لا شيئا آخر- أن يختار طريقه الذي يريد، والذي يحقق له ذاته ومنافعه وسعادته، على اعتبار أن الحياة اختلاف وطرق متعددة، فكونه مختلفا عن الآخرين لا يعني أنه مسلوب الإرادة في التعبير عن ذاته.

إلا أن التاريخ البشري حافل بثقافة الإلغاء والإقصاء والوصاية، على أساس أن الطريق الثالث هذا "رجسٌ" من عمل الشيطان، غير أن الحياة اليوم تغيرت وتبدلت أحوالها، وأصبح التماهي مع السائد والاندماج فيه نوعا من إجبار الإنسان على أن يكون نسخة مكررة عن نسخٍ سابقة وربما لاحقة، لا يحق له أن يكون "هو"، بل يجب فيها أن يكون "الآخرين".

وهذا الأمر هو نتيجة طبيعية لكراهية الاختلاف، بعد قرون من "التنميط" الثقافي، فمن حق الإنسان أن يصنع خياراته الذاتية، التي لا يتجاوز فيها خيارات الآخرين وحرياتهم، ويكون ضمان ذلك بوجود دولة "مدنية" ترعى حقوق الإنسان وتحقق شرط "العقد الاجتماعي"، ليكون هنالك ضوابط محددة لممارسة حق الحرية وحق الاختلاف، وصيانة حقوق جميع المواطنين مع الحفاظ على التنوع الذي يثري المجتمع والثقافة، وبالتالي الارتقاء بهما ضمن القوانين المرعية إلى مرحلة عليا من التعايش الفردي والاجتماعي.

غير أن هذا التعايش لا يحصل من دون وجود خيارات متعددة، فمن حق الفرد أن يكون لديه خياره الخاص، ومن حق الفئات المجتمعية أن تكون لديها خياراتها في العيش، ولديها انتماءاتها وقناعاتها التي تؤمن بها، كأحد حقوق "المواطنية" التي يجب توفيرها، لا يحق لمواطن مصادرته من مواطن لمجرد وجود الاختلاف، سواء أكان هذا الاختلاف على المستوى الفكري أو المذهبي أو المناطقي، فالوطن الواحد يعني وجود "خيارات" متعددة تحتوي كل الاختلافات الموجودة، وهذا يضمن عدم فرض هيمنة "الأكثريات" لقناعاتها.

ولكي يحقق الإنسان شرطه في أن "يعيش" يجب أن يشعر بتمثيله فرديا ومجتمعيا وإنسانيا داخل الفضاء العام الذي يعيش فيه؛ مما يعني تحقيق حق العيش بشكل طبيعي في دولة تتسم بالمدنية، مهما تعدد مكوناتها الثقافية والاجتماعية.

إن وجود القوانين والأنظمة الواضحة والصريحة المبنية بالضرورة على الحقوق والحريات الفردية والعامة التي تعتمدها دول العالم في العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، هو البيئة الأنسب لتحقق الخيار الثالث، الذي يعني أن يعيش الإنسان، وأن تكون خيارات المعيشة أمامه متاحة ومفتوحة، فالحياة هي "خيار" كبير، ولولا تعدد الخيارات فيها لوصل الحال بالإنسان مبكرا إلى الطريق الثاني، وهو الموت، فحين يفرض على الإنسان نوعا واحدا من الطعام أو الشراب، فإنه يصل إلى مرحلة الاعتلال فالمرض فالموت، وهنا لا بد أن يكون هنالك وعي وتفهم لقيمة التنوع باعتباره أحد مبررات وجود الخيارات المعيشية، فحمل الناس على نمط واحد من الحياة هو الطريق المختصر إلى الطريق الثاني وهو الموت، وليس بالضرورة الموت بيولوجيا، إنما حالة تشبه الموت السريري، الذي هو المقدمة المباشرة للطريق الثاني الحتمي!