بعد سنوات طويلة جدا من آخر لقاء، وجدت "صاحبي" صدفة على مدخل مجمع تجاري بالشارع الرئيسي لهذه المدينة. كل أسئلته إلي كانت تدور حول: أين ولماذا وكيف غبت عن أديم المشهد الثقافي لهذه المدينة؟ أسئلة حمراء محرجة من مثقف بارز تحاول أن تكسر من حولي قيود العزلة وسلاسل الانكفاء التي جعلت من شخصي حالة شاذة تهرب في الشتاء وحيدة إلى كثبان "قوز الجن" التهامي ثم تظهر في الصيف، ومرة أخرى في خيمة جبلية على نهايات "طور العفاريت". قلت لصاحبي فورا: شكرا لكل هذا الجفاف الثقافي الذي تتلذذ به هذه المدينة فلم يعد لنا أمل في لقاء إلا بالصدف عند محطات الوقود. هذه المدينة ستبقى أكبر مثال على "الردة" الثقافية مثلما هي أول مدينة تنكر وتتنكر لماضيها الحضاري الثقافي عندما كانت استثناء مدهشا ذات زمن من بين كل مدن هذه الجزيرة. في أبها، خط المرحوم "سعيد الغماز" أول صحيفة يدوية، ومن أبها أيضا، أول ثلاثة أسماء سعودية استطاعت أن تقتحم أسوار مجلات "الرسالة" و"روز اليوسف" بعد مقالات في أوائل القرن الماضي. من أبها أيضا انطلقت أول فكرة ترشيح لمجلس "شورى" المدينة قبل أكثر من 120 سنة، وفيها أيضا تم انتخاب أول مجلس بلدي. وحتى في التاريخ الأدنى القريب فمن منبر ناديها الأدبي ألقى عبدالله الغذامي محاضرته الأشهر في التمهيد لكتابه الشهير عن "الحداثة"، ومن على نفس الميكرفون ألقى تركي الحمد محاضرته التاريخية عن شرائح وحركات الإسلام السياسي. كانت "أبها" أم المبادرات ورأسها في الجوائز الوطنية مثلما كانت أم الأفكار في المهرجانات الثقافية والفنية والمسرحية. كان مسرح المفتاحة حتى وقت قريب أكبر مسارح الشرق الأوسط حتى كسره مسرح "دبي" ببضعة مقاعد، ومن المفتاحة انطلق بضعة فنانين وشعراء ورواد ثقافة كان لهم فيه ظهورهم الأول مثلما كان لأشهرهم لقطة النهاية والموت الشهيرة على خشبة ذات المسرح.
وفي الختام: لماذا هربت شخصيا إلى كثبان قوز الجن وكهوف طور العفاريت؟ الجواب لأن هذه المدينة شحت علينا ولو بصالون ثقافي يجمعنا ليوم واحد في الشهر تحت سقف مرتفع من الحرية المسؤولة. صرنا نتقابل في محطات الوقود بالصدفة لأننا لم نجد رجل الأعمال، وعلى كثرتهم، ليفتح لنا نافذة صغيرة إلى الهواء الثقافي الطلق، مثلما فعل رجال أعمال آخرون في مدن سعودية شتى. هذه مدينة تأثرت أجواؤها الثقافية ومبادراتها التاريخية، وكما يبدو، بالظواهر "الميتافيزيقية" مثل اتساع ثقب الأوزون والانحباس الحراري وارتفاع درجة المناخ ولهذا غرقت حتى رأس أعلى جبل فيها في غياهب التصحر الثقافي إلى الدرجة المخيفة التي صارت معها تسبح في عواصف الرمل "الأبيض" التي لم تكن تعرفه من قبل.
والخلاصة الأخيرة، نحن لا نريد من هذه المدينة سوى صالون أدبي يجمع الطيف الواسع تحت سقف واحد ينقذنا من الهروب إلى كل "قوز وطور" ويجمعنا بدلا من أن نلتقي بعتب ولوم أمام محطة وقود.