تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مشهدا انتظم فيه تلاميذ إحدى المدارس، لإلقاء تحية آخر العام لمدير مدرستهم. كانت طريقة المدير في تلقي تلك التحية لافتة. لقد كان ثانيا ركبيته ليكون بمحاذاة ارتفاع أجسام تلاميذه الصغيرة، لا وقاء يفصل ثوبه عن أرضية فناء المدرسة مستقبلا عناق الصغار وقبلاتهم. كنت أرقب عيون وابتسامات الصغار فلا أرى فيها سوى العفوية والحبّ والفرح بذلك العناق، دون أي أثر لافتعال أو تكلّف، فالأطفال أكثر براءة من ذلك.
علمت بعد ذلك أن اسم هذا المدير المربّي هو (حمدان العويضي) وأنّ له سيرة فريدة يتداول عجائبها الكثير من سكّان مدينة جدة، فهو مدير المدرسة الذي يعرف جميع أسماء طلاب مدرسته بالاسم عندما كان مديرا لثانوية (الشاطئ) حسب تعليق أحد تلامذته، وهو الذي حرص بعض طلابه على التواصل معه بعد تخرجهم من ثانوية (هوازن) بسنوات، بل ودعوته إلى مناسبات زفافهم أيضا، وهو كذلك المربي الذي يحرص على أن يكون أول من يصل إلى المدرسة صباح كل يوم، ليقف خارج البناية ينتظر طلبته الصغار ويساعدهم على عبور الشارع في ابتدائية (الأقصى)، وهو الشخص الذي يحرص على عيادة طلابه إذا مرضوا، والحضور لتعزيتهم إذا فقدوا أحد أعزائهم، بالتأكيد لا ينظر مثل هذا الرجل إلى عمله كمجرّد وظيفة تؤدى، بل كرسالة نبيلة قوامها الحب والعطاء.
من القصص العجيبة التي صادفتني أثناء بحثي، قصة (عبدالله) الذي يقول: أثناء دراستنا في ثانوية الشاطئ، هربت وبعض الزملاء من المدرسة فقدر علينا أن نتعرض لحادث سير، تسبب في نقلنا إلى قسم المرور وإيقافنا فيه، ولكننا تفاجأنا بعد ذلك بحضور الأستاذ حمدان بنفسه، وتحمله أمر كفالتنا وإخراجنا من التوقيف، بحكم أن ما حدث مسألة تربوية قبل أن تكون أمنية، ولذلك فإن مسؤوليته تقتضي علاجها بنفسه، وبالفعل فقد وفق الرجل، في أن يشعرنا بمسؤولية فعلنا وأن يوجهنا نحو الاستفادة منه في سبيل مصلحتنا. يزعم (عبدالله) أنه لم ينس ذلك أبدا كأحد أهم ما تلقاه في حياته من دروس.
في قصة أخرى يرويها ولي أمر أحد طلاب الابتدائية هذه المرة، يقول (خالد): بعد وفاة والدي انتابت ابني الذي يدرس في الصف الأول حالة من القلق تمنعه من النوم وممارسة حياته بشكل طبيعي، فأخبرت مدير مدرسته حمدان العويضي بالأمر من أجل تفهّم حالته، ولكني فوجئت بأن الأستاذ حمدان بادر بمحاولة للحلّ من قبله، فأعلمني بنيته إقامة حفلة رمزية تحت عنوان (يوم الجدّ) وطلب مني الحضور مع ابني في ذلك اليوم، وقد حضرت بالفعل، وكانت الفكرة عبارة عن إنشاء أجواء حميمة تتكلم عن (الجدّ) ومنح الأحفاد فرصة التعبير عن مشاعرهم نحو أجدادهم، وقد طلب الأستاذ حمدان أثناء ذلك من ابني الصعود إلى المسرح والحديث عن جده، فما كان من الصغير إلا أن بدأ بالحديث عن جدّه وعبر عن افتقاده له وعن مخاوفه المتعلقة برحيله، وما يقولون عن بقائه تحت التراب، ليستقبل الأستاذ حمدان كل ذلك بخبرة المربّي ويخرج باقة من الورد ويطلب منه أن يهديها إلى جده بشكل رمزي، فارتاح الطفل للفكرة على النحو الذي بدا منه أنه قد بدأ يستوعب فكرة الموت بشكل أكثر لطفا وأقلّ وحشة، وقد تغيرت الحالة النفسية لولدي إلى الأفضل بدرجة كبيرة بعد هذا الاحتفال الصغير، وكم أكبرت أن أرى مديرا يتفاعل مع الحالة النفسية لواحد من تلاميذ الصف الابتدائي في مدرسته بهذه الطريقة النادرة.
إنها فلسفة التربية بالحبّ، فلقد أثبت هذا الرجل بما خلفه من أثر في نفوس من حوله من مربين وطلاب وأولياء أمور بأن ما يقال عن فاعلية الحبّ ليس وهما شاعريا، أو تصورا طوباويا، بل هو حقيقة ملموسة لمن أراد أن يدركها.