كثيراً ما تثار الأسئلة حول الفكر العربي الإسلامي وحال الأمة العربية المأزوم في نقاشات المفكرين اليوم. وتمثل هذه الأسئلة والنقاشات مدخلاً لازماً ومهماً في طريق تشخيص الواقع. غير أنه لا يبدو أن الفكر العربي الإسلامي قد بدأ في شق طريقه للخروج من أزمته والتي تتجلى في توقفه عن الإسهام في صنع الحضارة بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والعلمية وتموضعه في ذيل القائمة التنافسية العالمية. من الواضح إذن أن تلك النقاشات وحدها ليست كافية لإخراجنا من الأزمة. إلا أنه من الجميل في الأمر أننا جميعاً متفقون على أن حال الفكر العربي ومساهمته في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة هو حال لا يليق بأمة أخرجت مفكرين وعلماء وفلاسفة استطاعوا رفد الحضارة الإنسانية بمئات الكتب والنظريات، لكننا غير متفقين على أسباب هذا التردي باعتباره الخطوة الأولى لطرح الحلول.

في مقال سابق بعنوان "مساءلة العقل العربي" (الوطن، 24 /9 /2010) كنت قد طرحت عدة تساؤلات حول العقل العربي وما تركه المفكرون العرب من أثر على تشكيل هذا الفكر، وحددت سمتين طغتا على المنظومة الفكرية العربية وهما غياب التراكمية وضعف التأثير. واليوم أجدني أعيد طرح نفس التساؤل لكن بالعودة إلى التاريخ لاستكشاف ما أبدعه الفلاسفة والمفكرون المسلمون في مراحل سابقة على العصر الحديث عل ذلك يكون مدخلاً لاستعادة الإسهام في خارطة المنجز الحضاري الإنساني.

منذ أن وعيت على أهمية العقل والفكر في تكوين الإنسان، وأخذت أبحث في ما أبدعه العلماء والمفكرون في عصر الإمبراطورية الإسلامية، أدركت تميز هذا الفكر برموز نهضوية مفكرة. ففي المرحلة الأولى (القرنين التاسع والعاشر الميلادي، العصر العباسي الأول) أنجب الفكر الإسلامي العديد من الفلاسفة والمفكرين مثل الكندي والرازي والفارابي وابن سينا الذين أبدعوا في المجالات الإنسانية المختلفة كالطب والفلك والرياضيات واللغات والمنطق.

كان يعقوب بن اسحاق الكندي (805 - 873) أول مسلم حاول استعمال المنهج المنطقي في دراسة القرآن، كان فكر الكندي متأثراً نوعاً ما بفكر المعتزلة ومعارضاً لفكر أرسطو، وقد شملت اهتماماته الرياضيات والفلسفة. أما أبو بكر الرازي (864 -923 م)، فقد كان طبيباً وجراحاً من أعظم العلماء العرب المسلمين. كتب في الطب والفلسفة والكيمياء والرياضيات وعلم الأخلاق. وكان يقرأ كثيراً ويربط بين العلم والعمل. وأسهم بنصيب وافر في بناء صرح العلم، بما دونه من آراء خاصة ومشاهدات دقيقة. كان الطبيب في عصر الرازي فيلسوفاً، وكانت الفلسفة ميزاناً توزن به الأمور والنظريات العلمية التي سجلها الأطباء في المخطوطات القديمة عبر السنين.

أما أبو نصر محمد الفارابي (874 - 950 م) أو المعلم الثاني كما يطلق عليه، فقد كان فيلسوفاً مسلماً أتقن العلوم الحكمية، وبرع في العلوم الرياضية كما كانت له قوة في صناعة الطب. ويعود له الفضل في إدخال مفهوم الفراغ إلى علم الفيزياء. ويحتل كتابه "الحروف" أهمية خاصة إذ يعتبر بحثاً في الفلسفة الأولى، إضافة إلى نقاش علماء اللغة والكلام حول الكثير من الإشكاليات التي كانت تتعلق أساساً بعلاقة اللغة والمنطق وإشكالية اللفظ/المعنى في محاولة لتأسيس مفهوم الكلي وتشريع دور المنطق في البيئة الإسلامية التي كانت رافضة لها.

وقد أسهم الطبيب الفيلسوف والعالم الموسوعي ابن سينا (980-1036م) والملقب بالشيخ الرئيس في مجالات الطب والفلسفة والتربية فكان من أبرز فلاسفة الشرق ومن أعظم رجال الفكر في الإسلام واعتبر كتابه "القانون" مرجعاً طبياً عالمياً. كما أن كتابه المشهور "كتاب الإشارات" كان أول كتاب واضح وصريح نحو الفلسفة المشرقية، وفيه ذكر مصطلح الإشراق وكان لهذا الكتاب أعظم الأثر في نشوء المدرسة الفكرية الإشراقية على يد يحيى السهروردي. ويعتبر كتابه "الشفاء" من موسوعات العلوم ودوائر المعارف، في ثمانية عشر مجلداَ، محفوظة منها نسخة كاملة في جامعة أكسفورد.

وبانتهاء العصر الذهبي للإمبراطورية الإسلامية، يمكننا القول بشكل عام أنه قد ساد نوع من الخمول في الحركة الفكرية والفلسفية باستثناء شذرات ابن رشد (قاضي أشبيلية) في سجاله مع أبي حامد الغزالي.

في الحقيقة لم أستعرض هذا الموجز عن إسهامات المفكرين المسلمين الأوائل من أجل تقديم الحقائق والمعلومات فهي متوافرة ومعروفة للكثير منا. وللمفارقة فإنه في الوقت الذي مازال فيه الغرب يحتفي بهؤلاء الرواد وفكرهم كرموز لإسهام الحضارة الإسلامية، نجد منا من يحاول النيل من إسهاماتهم الفكرية والفلسفية بتهم مختلفة. ولكن ما أود أن أنقله هو التعرف على البيئة المعرفية التي طبعت العالم الفكري للمسلمين الأوائل والتي أسهمت في قدرة الفكر الإسلامي على الإسهام في المنجز الحضاري الإنساني بشكل كبير. في تلك البيئة الفكرية لم يجد علماء المسلمين حرجاً من الانفتاح على ثقافات الشعوب وعلومها مما جعلهم قادرين على الدخول في حوار معها والاستفادة منها والرد عليها، إذ لم يبدع هؤلاء العلماء في العلوم فقط بل كانوا أيضاً رواداً في الفكر والفلسفة والحوار. ولا نبالغ إن قلنا إن فكرهم ورؤاهم كانت هي الرافعة لما قدموه من إنجازات نفتخر بها اليوم، في الوقت الذي نغلق فيه الأبواب على الفكر الفلسفي النقدي تحت حجج مختلفة. هؤلاء العلماء المسلمون تميزوا بالمنهج العلمي في النقاش ومقارعة الحجة بالحجة دون الدخول في قضايا تكفير بعضهم البعض أو التعصب المذهبي أو اللجوء إلى مواقف فكرية مضى عليها المئات من السنين تقوم على الاتهامات للآخر مما جعلهم قادرين على الاستفادة من تراكمية المعرفة باستخدام المنطق العقلاني والاجتهاد.

واحدة من الإشكاليات المطروحة اليوم هي كيفية التوفيق بين ما أنجزه المبدعون المسلمون الأوائل وبين الوضع المتردي للعقلية العربية الإسلامية التي أغلقت باب العقل والتفكير وصوبت سهامها ضد كل من يستخدم الفكر النقدي والأدوات والمناهج المعرفية الجديدة. وفي الواقع فإنه حتى لو كنا نفخر اليوم بإنجازات هؤلاء العلماء المسلمين الأوائل فإن ذلك يظل في الغالب من باب الشعاراتية بينما يستمر غياب الوعي عن القواعد الأساسية التي شكلت فكر علمائنا الأوائل. كل ذلك أدى إلى معاناة الفكر الإسلامي من طغيان العواطف الجياشة والبعد عن الموضوعية وعدم الاستفادة من الفلسفات الإنسانية لصياغة نظرية إسلامية معاصرة في المعرفة الإنسانية تكون قادرة على إخراجنا من نفق التخلف العلمي والترهل الفكري. لذا فإن ما هو مطلوب اليوم هو وضع أبجديات جديدة للقراءة ومناهج مختلفة للنقد والتحليل تعيدنا إلى البيئة الفكرية التي استطاع المسلمون الأوائل من خلالها التصدي لقيادة الحضارة الإنسانية والتفاعل مع المتغيرات العصرية والتحديات الكونية بطريقة تبني ولا تدمّر.