كنت في منزلي الهادئ أرتشف قهوتي الصباحية حين أعلنت محطة التلفزة الرسمية الوحيدة في سورية النبأ المزلزل، صمتٌ ثقيل ومخيف حاصرَ دمشق، وسقط الزمن في هوة سوداء سحيقة بدا أنها أزلية. بدلت ملابسي وخرجت مذعورة نحو الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين حيث كنت أعمل، كانت الشوارع مصابة بدوار مباغت أشبه بغيبوبة، سائقو السيارات والمارَة يترنحون تحت تأثير مخدر من نوع خاص، بوجوه مضطربة وأجساد عديمة الوزن وأفواه مقفلة كمن أصابه الخرس، وحدها أقدام عناصر وضباط الأمن وقوات حفظ النظام وعجلات السيارات الأمنية كانت تَخُبُ مسرعة وسط للمدينة العالقة في فراغ العدم.
دخلت إلى مبنى التلفزيون، الذهول حط بظله الثقيل هناك أيضا، وجوه أشباح المذيعين والمحررين والمخرجين والمديرين وعناصر الأمن كانت ذاهلة، وفي عيون بعضها ذعر عتيق وغياب، وقفت مع زملائي المتجمعين في البهو الأمامي للبناء القديم ثم تدافعنا إلى الشوارع المكتظة بالحشود الزاحفة باتجاه القصر الجمهوري، علويون، سنة، مسيحيون ودروز، نساء سافرات ومحجبات، أطفال وشباب وكهول، وعناصر أمن متخفون، حملوا صور حافظ الأسد وابنه بشار، المُعَدَة سلفا.
هتفت الجموع المضطربة: "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، وتعالت أصوات مشوبة بالبكاء والعويل ثم شابها غضب شرس ومتوعد "يا بشار لا تهتم نحنا رجالك نشرب دم" و"الله سورية بشار وبس"، هتفتُ مع القطيع المنفعل، وبكيت مثلهم، كنا نهتف ونبكي بطريقة هستيرية غير واعية شعوريا وغير مفهومة لي حتى اللحظة، واستمررنا نهتف ونبكي ونهتف ونبكي إلى أن بُحَت أصواتنا الهادرة وتعبت أجسادنا الملفوحة بالرجاء والعبث والضياع.
كان الذعر يغطي عيون معظم السوريين، إلا أن عيون العلويين كانت الأكثر هلعا وحزنا، وبدا أن أيديهم المرفوعة إلى السماء قد استعادت ذكريات بعيدة وحكايات متوارثة عن مذابح قديمة.
لحظة إعلان نبأ وفاة حافظ الأسد في العاشر من حزيران 2000 لم يفكر عموم السوريين من الطوائف الأخرى في الانتماء الطائفي لبشار، تماما كما لم يفكروا قبله في انتماء أبيه حين رحبوا بانقلابه العسكري على القيادة المدنية لحزب البعث العربي الاشتراكي في 23 شباط 1966 وعلى رفيق دربه صلاح جديد عام 1970 معتقدين أنه يمثل ثورة الطبقات الكادحة من فلاحين وعمال وفقراء ضد أعدائهم من إقطاع وبرجوازية ورأسمالية، وهتفوا له كما هتفوا لابنه من بعده "بالروح والدم" دون تردد أو تفكير.
وفاة القائد الرمز المستبد الشمولي والمتسم بالأبدية و"اللافناء العقائدي" كانت ضربا من الخيال شبه المستحيل في العقول المغسولة والمبرمجة للسوريين، فكيف لسورية التي تم اختزالها لتكون فقط سورية الأسد بدءا من ترديد الشعار المدرسي الصباحي "قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد" منذ العام السادس من العمر حتى نهاية الدراسة الجامعية، مرورا بفرص التوظيف وفق الولاء الحزبي للقائد، وصولا إلى التصاريح الأمنية المفروضة على جنازة المواطن السوري، كيف لها أن تحيا بدون هذا الشعار التمثال؟!
لم يحظ عموم السوريين لحظة إعلان نبأ وفاة حافظ الأسد باليقظة الكافية للتفكير في أهمية الانتقال الديموقراطي للسلطة والاحتجاج ضد توريث الابن، كانوا فقط يريدون ردم الهوة العميقة التي سقطنا فيها جميعا، لحظة سقوط الأبدية العقائدية لخلود "الأب القائد"، ولم يكن من السهل الاستيقاظ بسلاسة وسرعة بعد 30 عاما من التنويم المغناطيسي الجماعي وعملية غسيل الأدمغة المتبعة كما في كل الأنظمة الشمولية ككوريا الشمالية وسورية، لقد سقط جميع السوريين من كارهين ومحبين، لحظتها، عن حافة التوازن الوهمي الذي اعتادوا عليه في ظل الحكم الأبوي الشمولي المُستعبِد والمريح للقطعان التي اعتادت الكسل الفكري والسياسي في ظل العبودية. عام 1973 في ستوكهولم في السويد سطت عصابة من اللصوص على بنك كريديتبانكين Kreditbanken واحتجزوا بعض موظفي البنك كرهائن لمدة أسبوع، وفي هذه الفترة نشأت علاقة تضامن عاطفي بين الرهائن والجناة، حتى إن المحتجزين دافعوا عن آسريهم بعد إطلاق سراحهم، الحادثة دفعت علماء النفس إلى دراسة مثل هذه الحالات والخلوص إلى تسميتها بمتلازمة ستوكهولم وهي "الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يظهر بعض علامات الولاء والتبجيل له".
في "متلازمة ستوكهولم" ما قد يفسر شعور الضياع الذي عاشه السوريون المقموعون يوم وفاة الأسد الأب رغم معاناتهم أثناء حكمه وكره بعضهم له كما قد يشرح لنا أيضا أسباب تأخر بعض السوريين، لا سيما الطبقات الفقيرة والمضطهدة تاريخيا منهم مثل العلويين وغيرهم، في الانضمام إلى الثورة السورية مؤخرا واستمرارهم في تأييد الأسد الابن، فاستمرار الحكم القمعي لمدة طويلة "يولد ويطور خوف الأفراد من النظام، ليصبح المجتمع ضحية النظام، ويدرك النظام هذه الحالة مع الوقت، حتى يتقن لعبة ابتزاز المجتمع. فيعتاد الشعب على القمع والذل لدرجة تجعله يخشى من التغيير حتى وإن كان للأفضل".
قبل يومين مرت الذكرى الخامسة عشرة لوفاة حافظ الأسد، وأعترف أني أشعر ببعض الخوف حين أرى صورته رغم أني معارضة وأعيش في فرنسا، وحتى اليوم ما زال لسان بعض السوريين من مؤيدين ومعارضين يَزِل ويخطئ أحيانا فيقول عن غير وعي حافظ الأسد عندما يريد الحديث عن بشار! خمسة عشر عاما، أربعة منها شهدت اليقظة التاريخية للسوريين من سباتهم العميق وثورتهم العظيمة ضد الأسد الابن الذي يبدو قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، وما زال بعضنا لا يصدق أن الرجل قد مات، وأن الأبدية المطلقة حكر لله وحده.