عندما كنت طفلاً، وأطلب من والدي، رحمه الله، طلباً يعتقد بأنه مستحيل التنفيذ، برغم كونه ممكن التنفيذ ولكن الظروف والدواعي لا تستدعيه، لا يرفض طلبي مباشرة، وإنما يوافقني بأكثر من حماسي للطلب؛ ولكنه يعدني بتنفيذه ولكن بعد تنفيذ ما لا يمكن تنفيذه. مثال على ذلك، فعندما طلبت منه أن يشتري لي حمارا، لأركبه وأجوب به أزقة حارتنا والحواري المجاورة، وأدخل به في سباقات الحمير على نطاق مدينتي وضواحيها، مع تأكيدي له بأنني سوف أعتني به خير اعتناء، وأكون له بمثابة الوصي الرفيق به؛ حيث لن أستخدم العصا معه، كما يفعل قساة القلوب وغلاظ الأكباد مع هذا الحيوان النبيل. وافقني على هذه الفكرة وأكد لي أنها فكرة عظيمة وهنأني عليها، وطلب مني أن أنتظر حتى يبني جزءا من حوش بيتنا، كمقر لائق بحماري القادم. وعندما بدأت ألح عليه بسؤالي متى يبدأ ببناء المقر اللائق بحمار أحلامي؟ قال لي انتظر حتى يأتي الربيع، عندها يبنى المقر الأثير بأجود أنواع الحمير، وبنفس الوقت، أستطيع أن آخذ حماري ليأكل من أزهاره وحشائشه ما لذ له وطاب.
طبعاً انتظرت على أحر من الجمر قدوم الربيع ليبدأ والدي بتدشين البنية التحتية لمشروع حماري الموعود، وأتى الربيع المنتظر، فـخرجنا برحلة برية عائلية، بمناسبة قدومه، وهنا وضعت والدي أمام الأمر الواقع، وقلت له إن هذا الربيع قد أتى يختال ضاحكاً، وذكرته بأن ساعة الصفر لبداية تنفيذ مشروعي الحماري قد دقت. فقال لي صحيح، ولكن العارفين بأحوال تغير الطقس وشؤون الرعي والمراعي، يقولون إن فصل الربيع القادم، سيكون أكثر اخضراراً وعطاء وتنوعا نباتيا، فلننتظر إلى الربيع القادم. وهكذا انتظرت الربيع القادم والذي تلاه، حتى أصبحت فكرة اقتناء الحمار العظيمة لدي مع التقادم، فكرة لا هي عظيمة ولا هم يحزنون، وعليه صرفت النظر عنها، وعن تتبع أحوال تغير الطقس وشؤون الرعي والمراعي وللأبد.
وعندما كبرت، بدأت أسمع مثلا شعبيا يتردد على ألسنة الناس، وهو " لا تموت يا حمار لين يجيك الربيع"، وهنا تذكرت حمار أحلامي والذي حتى أتى الربيع الموعود ولم يأت، وشعرت بأن هذا المثل قد تمت صياغته وترديده، ليعبر عن الحالة " الحمارية" التي مررت بها. وتعجبت كيف عرفها الناس، وهي لم تخرج عن نطاقي أنا ووالدي، وأفراد عائلتي، الذين كانوا ينصتون لحواراتي الشفافة والحماسية مع والدي، بشيء من التبسم، ومسك النفس عن الضحك.
وعندما كبرت أكبر، وصرت أعقل الأشياء أكثر، جزمت بأن هنالك أناسا كثيرين ينتشرون على قوارع الطرق، قد مروا بنفس الحالة "الحمارية" التي مررت بها، ولذلك أتى المثل "لا تموت يا حمار لين يجيك الربيع" خير معبر، ليس فقط عن حالتي، ولكن أيضاً عن كل الحالات "الحمارية" المشابهة.
وقد أخذ الناس يرددون المثل أعلاه عندما يتم وعدهم بتحقيق أمنية لهم، ولكن بعد تحقيق شرط أو شروط، لا يمكن تحققها في المستقبل المنظور أو البعيد؛ كنوع من التهرب من مجابهة الرفض غير المبرر أو غير المنطقي. ومثال على ذلك، كأن يطلب شاب من والده شراء سيارة له، فيقول له والده إنه فعلاً يشعر بحاجة ولده الماسة للسيارة وإنها ضرورية بالنسبة له؛ ولكنه سينتظر حتى يتم اختراع سيارة تسير على الطاقة الشمسية، للتقليل من كلفة حركتها المادية، من ناحية ومن ناحية أخرى، مراعاة لسلامة البيئة وعدم تلويثها بكثرة انبعاث العوادم الحارقة للوقود النافث لثاني أكسيد الكربون الملوث للبيئة. وهنا يحق للولد أن يردد المثل الدال على حالة اليأس والقنوط "لا تموت ياحمار لين يجيك الربيع". وهكذا دوماً يتم قتل الفكرة النبيلة، بفكرة، تبدو ظاهرياً، أنها أنبل منها. وهنا ينجو الرافض للفكرة النبيلة، من تهمة تخليه عن تبني الفكرة النبيلة، وحشره في خانة عدم النبل.
ونلاحظ مثل هذا التهرب غير النبيل من تبني أو تأييد الأفكار النبيلة، بكثرة في هذه الأيام، من بعض المسؤولين أو من يطرحون أنفسهم كمفكرين عقلانيين، وخاصة عندما تتمحور الفكرة حول قضايا المرأة المتعلقة بحقوقها الشرعية والوطنية. فعندما تطرح قضية مثل حق قيادة المرأة للسيارة، أو حق عملها في محلات تجارية، وحتى لو كانت لبيع لوازم النساء أو حتى كاشيرات للنساء فقط، يأتيك من يقول: صحيح أن هذه حقوق ومطالب وطنية وشرعية للمرأة، يجب تحقيقها؛ ولكن يجب أولاً أن نقضي على ظاهرة العنوسة بين فتياتنا التي أخذت تقض مضاجع أولياء أمورهن. كما يجب التخلص من حالات العضل التي تتعرض لها الفتيات ظلماً وعدواناً، وضمان حقهن الشرعي في الإرث، لأن بعض القبائل ما زالت لا تؤمن بحق المرأة في الميراث، ثم ننظر بعد ذلك، في قضية قيادة المرأة للسيارة، أو بيعها في محلات لوازم النساء وغيره من حقوقها المسلوبة! هنا يحق للمرأة الذكية، التي تعي أنها لن تطال من حقوقها المغيبة أو المغتصبة، في ظل مثل هذا الطرح التهربي والتسويفي، لا حق ولا باطل، بأن تردد " لا تموتي ( يا حرمة )، لين يجيك الربيع".
تم سؤال مسؤولة تعليمية، متى يتم إدخال مادة الرياضة كمادة دراسية لمدارس البنات؟ فكان ردها بأن وزارتها مشغولة الآن في قضية تعميم الروضات في المملكة، حيث المملكة تعاني من نقص فادح في عدد مدارس الروضات، وهذه قضية أهم بكثير من قضية إدراج الرياضة كمادة في مدارس البنات. وقد علق شيخ بأن إدخال مادة الرياضة في مدارس البنات هي محرمة، لا تخفى أضرارها على ذي لب. والذي لا يخفى هنا على ذي لب، أو غير ذي لب، بأن كلا الطرحين لا يوافقان على إدراج مادة الرياضة في مدارس البنات، ولكن كل طارح، طرحها بأسلوب مغاير، مع كونهما يفضيان لنفس النتيجة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هو لماذا يحدث لدينا هذا؟ ويتم رفض مطالبنا عن طريق التأجيل أو التسويف، حتى أصبحنا نردد المثل "لا تموت يا حمار لين يجيك الربيع" عندما يمنينا أحد بتحقيق مطالبنا، ونلوذ بالصمت برغم علمنا بأن مطالبنا لن تتحقق. والجواب على هذا السؤال، بدرجة ما هو ثقافي معقد، إلا أنه واضح لو أردنا له أن يكون واضحا. وهو أن الحقوق لا تأتي عن طريق التوسل أو بالأحرى عن طريق التسول. وما يأتي عن طريق التوسل أو التسول، هو الصدقات فقط، التي تستوجب استدرار العطف من مالكها والمهيمن عليها ليتكرم بمنحها لمتسولها أو متوسلها. أما الحقوق فهي لا تصل لصاحبها، إذا تأخرت أكثر من اللازم، إلا عن طريق الانتزاع، لا غير. فالصدقات تستجدى والحقوق تنتزع.
ومن فضل استجداء حقوقه وعدم انتزاعها، فقد تنازل طوعاً عنها كحق من حقوقه، وتبرع بتحويلها لصدقات، ولذلك فعليه توسلها أو تسولها والانتظار ثم الانتظار ثم الانتظار ليستجاب لتسولاته أو توسلاته، وأن لا ينسى، ترديد المثل الشعبي "لا تموت يا حمار لين يجيك الربيع".