دار قبل أيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لطفل يبكي متأثرا من خسارة فريقه في نهائي كأس الملك، حيث بدأ المقطع قائلا "هذا أحد ضحايا النصر"، واستفزه بعبارة "يا فاشل" في إشارة إلى تشجيعه للنادي الذي خسر، مما جعله يرفع سلاحا مهددا أخاه برميه بالبندقية! ولأن ذاكراتي ليست مثقوبة تذكرت سريعا مقطع الفيديو الذي انتشر قبل أشهر بخصوص الطفل الذي أجهش بالبكاء بشدة بعد ديربي الهلال والنصر.
سنوات تمر ونحن ندور في رحى التعصب الرياضي ذاته ونتخبط في دوائر الشكوى ذاتها، ونحنّ ونئن للحلول ذاتها القريبة البعيدة، الممكنة والمستحيلة. وكلما حضرت حادثة تعصب جديدة، نكأت جراحنا وبعثتنا من مراقدنا نشتكي ونشجب، نتساءل ونشتكي، نحلل ونفسر، ونرفع الحلول، وما هي إلا أيام قليلة، حتى نعود إلى اضطجاعاتنا، "نكبر الجمجمة ونروق الدماغ"، وننسى! المشجعون المتعصبون لا أقول "المؤدلجون" ولكنهم "المؤرضون" قادهم التعصب إلى درجة الغلو الرياضي الذي ربما قد يتطور إلى الطلاق بين الزوجين، أو القطيعة أو العنف بحجة اختلاف الميول، وقد تبرر الغاية الوسيلة لدى هؤلاء وفق قواميسهم الضيقة حتى وصلت الآن إلى التهديد بالسلاح.
المتأمل للمشهد الرياضي يقرأ فيه مدى الاحتقان والتعبئة السلبية المتزايدة يوما بعد يوم، من المحسوبين على الرياضة من إعلاميين وكتاب ورؤساء أندية ومشجعين جرفتهم الموجة فسقطوا في مستنقع التطرف والتشطيب، فجماعة هذا الفريق تشطب على فريق آخر، والكاتب بشخطة قلم يتفنن في التشطيب على كاتب آخر، ومغردو هذا الفريق يشطبون على مغردي الفريق الآخر، والكل يشطب على الكل باستخدام شتائم الكروان التي نستهلكها، وإذا لم تسعفنا القواميس العربية بها -رغم وفرتها- استوردنا من اللغات الأخرى شتائمها. ما جعل الرياضة من وجهة نظر هؤلاء تتحول إلى ميدان تجيش فيه الجيوش لخوض حروب باردة تدور رحاها على مستطيل أخضر ومدرجات ملونه وأعمدة كتاب مائلة وبرامج فضائية معاقة، وبطلتها أيقونة بلاستيكية مستديرة الشكل تسر المتأدلجين، آسف أقصد المترايضين.
لقد شوهنا هذه الرياضة التي يقول عنها الشاعر محمود درويش: "إن كرة القدم أشرف الحروب الإنسانية، وإنني أشعر بمتعة لا متناهية لمشاهدتها، وأنا من جهتي أفضل متابعة مباراة في كرة القدم حتى ولو كان من سيجيء الأمسية هو المتنبى".
نعم، هذه المستديرة الساحرة التي لطالما حققت للبشرية حلمها الإنساني في تحقيق العدالة على الأرض، إذ يجلس الألوف من البشر في مدرجات ملعب مكشوف، ويتابع الملايين على شاشات التلفزة لعبة محكومة بمنظومة علنية من القواعد والقوانين متفق عليها بين الجميع، ويخضع لها الجميع بنفس الدرجة، وتطبق فيها القوانين بكل صرامة من قبل حكم الساحة، ويكون فيه الفوز للأصلح فقط، فهنا لا تنفع محسوبية ولا تجدي واسطة. في ساحة الملعب تذوب كل أنواع التعصب، ويكون الجميع سواسية أمام العدالة الكروية، بصرف النظر عن الانتماءات، فتتحقق الإنسانية الممثلة فيما يقدمه اللاعب كإنسان وكموهبة، يقف في الساحة الخضراء إنسانا حرا كاملا متساويا مع كل إنسان آخر، مع كل لاعب وكل متفرج في طقس كروي مثير، ولكن عندما تفقد كرة القدم إنسانيتها وتصبح أداة لتبرير التطرف، فإنها تصبح نقمة وتنسلخ من صورتها الساحرة المثيرة.
السؤال المطروح: من الذي بيده إخماد جذوة التعصب الرياضي؟
الجواب: وزارة الثقافة والإعلام، والرئاسة العامة لرعاية الشباب، ورؤساء الأندية الرياضية، ولكن المسؤولية الرئيسة تقع على عاتق وزارة التعليم.. فالمطلوب الآن زيادة الجرعة الثقافية والحقوقية الإنسانية في المناهج الدراسية، بما يخفف من حدة العنصريات والتعصب.