في الخامس من يونيو عام 1967، شن الكيان الصهيوني حربا على ثلاث جبهات عربية، هي مصر وسورية والأردن، بدأت بقصف جوي مركز على جميع القواعد الجوية المصرية، وتدمير معظم طائرات السلاح الجوي المصري. وخلال خمسة أيام من الحرب تمكن الكيان العبري من احتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء بأكملها على الجبهة المصرية، وأمست قواته ترابط على الضفة الشرقية لقناة السويس. وعلى الجبهة الأردنية احتل العدو الجزء الشرقي من مدينة القدس الشريف وكامل الضفة الغربية. وفي خط المواجهة السوري جرى احتلال مرتفعات الجولان السورية، وأصبح العدو على مسافة لا تتجاوز السبعين كيلومترا من العاصمة السورية.
قيل الكثير عن أسباب هزيمة الجيوش العربية، في تلك الحرب. لكن شيئا واحدا غاب عن القراءة والتحليل لنتائج الحرب، هو حالة الاسترخاء الدولي التي سادت في تلك الفترة، وتأثيراتها على مواقف القوى العظمى. بالتأكيد ليس هدفنا من هذه القراءة، التقليل من تأثير العوامل الأخرى، ولكن وضع مجمل الأسباب التي ذكرت في حينه في سياق تاريخي وموضوعي.
وفي هذا الشأن ينبغي التذكير بأن أحد الأسباب التي طرحتها دول المواجهة آنذاك لتفوق العدو، أن الاتحاد السوفيتي، الحليف الاستراتيجي لمصر وسورية، لم يكن في تقديمه السلاح لحلفائه أريحيا بنفس المستوى الذي كانت عليه الولايات المتحدة الأميركية مع الكيان الصهيوني. كان الكيان الغاصب يتلقى أحدث ما في الترسانة العسكرية الأميركية، في حين كان السوفيت على النقيض من حلفائهم الأميركان يقدمون السلاح للعرب بالقطارة، ومن النوع الذي لا يوازي في كفاءته السلاح الأميركي.
لم يكن ذلك نتيجة ضعف في قدرات السوفيت في مجال تصنيع السلاح، فترسانتهم العسكرية، وتفوقهم في هذا المجال، متكافئ مع التصنيع العسكري الأميركي. لكنهم في ذلك الوقت اعتمدوا سياسة تهدئة مع الإدارة الأميركية، في منطقة الشرق الأوسط.
كان السوفيت من جهة مشغولين بدعم حلفائهم في الحرب التي تدور رحاها في فيتنام، والتي انتقلت بسرعة إلى لاوس وكمبوديا، وشبهها في حينه هنري كيسنجر بتساقط قطع الدمينو.
وموضوع ضعف الدعم العسكري السوفيتي للعرب لم يكن سرا، وجرى تداوله في الصحف العربية، وإن لم تفصح عنه القيادتان المصرية والسورية. ولكن بعد رحيل الرئيس عبدالناصر وتسلم الرئيس السادات سدة الحكم، أصبح الحديث عنه معلنا، وتطور ذلك لاحقا لاتخاذ الرئيس المصري قرارا بطرد البعثة العسكرية السوفيتية التي تجاوز تعداد أفرادها الثمانية عشر ألف خبير. وليتبع ذلك إنهاء التحالف الاستراتيجي بين البلدين، بعد معركة أكتوبر 1973، والانتقال الاستراتيجي في طبيعة الصراع مع العدو، وصولا إلى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978.
ولكي نفهم هذه التطورات، سيكون علينا متابعة تطور السياسات السوفيتية حيال المنطقة العربية، والرغبة السوفيتية في إنهاء الحرب الباردة مع الأميركيين، والتي ترجمت في الطرح الشيوعي الجديد لمبدأ التعايش السلمي.
كان هذا المبدأ قد ساد، حين انضم الاتحاد السوفيتي، تحت قيادة زعيمه جوزيف ستالين، للدول المناوئة للنازية والفاشية. وقد تمكن هذا الحلف من إلحاق الهزيمة الساحقة بدول المحور، المكونة من ألمانيا وإيطاليا واليابان. لكن نهاية الحرب العالمية الثانية، أعادت للصراع العقائدي بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي حضوره القوي. وكان بالإمكان أن تحسم أميركا صراع توازن القوة لصالحها، بعد امتلاكها القنبلة النووية، إلا أن تمكن السوفيت من اللحاق سريعا بالنادي النووي، وتصنيعهم القنبلة النووية، حال دون ذلك، ونتج عنه وجود نظام دولي بثنائية قطبية.
وحين توفي الرئيس جوزيف ستالين، عام 1953 وتولى نيكيتا خروتشوف قيادة الحزب الشيوعي، بدأت مرحلة جديدة، قوامها التبشير بفكرة التعايش السلمي بين المعسكرين المتصارعين. وقد دخل هذا المفهوم في القاموس السياسي الدولي، وعرف بأنه انتهاج سياسة تقوم على قبول فكرة تعدد المذاهب الأيديولوجية والتفاهم بين المعسكرين في القضايا الدولية. وكان من نتائج هذه السياسة الجديدة، التوصل إلى اتفاق إنهاء الحرب الكورية والانسحاب الفرنسي من الهند الصينية.
وبدا في حينه نجاح الاتجاه نحو تصفية إرث التوتر الذي خلفه عهد الرئيسين الروسي والأميركي، ستالين وترومان. وحينذاك برزت حركة عدم الانحياز التي انضمت إليها أكثرية بلدان العالم الثالث، على قاعدة العمل على تخفيف التوترات الدولية، واحترام حق الشعوب بتقرير مصيرها. لكن هذا الانفراج النسبي لم يدم طويلا فقد شهدت سنة 1956 قمع انتفاضة هنغاريا، من قبل السوفيت ووقع العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي على مصر.
ومع أن أميركا والسوفيت اتفقتا على إدانة العدوان الثلاثي، كل لأسبابه، لكن الحرب الباردة عاودت انتعاشها، بالغة ذروتها في أزمة الصواريخ الكوبية، عام 1962. وقد خلقت تلك الأزمة وعيا جديدا لدى الدول الكبرى، وشعوب العالم كافة بمخاطر السلاح النووي. وكان السوفيت حريصين على التوصل إلى اتفاقيات مع الولايات المتحدة للحد من انتشار الأسلحة النووية. وقد بدأت مفاوضات جدية من أجل تحقيق ذلك لكنها لم تكلل بالنجاح إلا عام 1972، حين وقع الطرفان السوفيتي والأميركي اتفاقية سالت الأولى.
خلاصة القول أن سعي السوفيت إلى التوصل إلى اتفاقية نزع السلاح مع الأميركيين أدى إلى حالة استرخاء، نتج عنها التضييق في مجال تصدير السلاح لبلدان المواجهة العربية. وحين حدثت حرب يونيو بدا السوفيت غير حريصين على اتخاذ أي خطوة عسكرية جدية لوقف الحرب، في حين كان الأميركيون يفتحون خزائنهم لدعم العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية.
وهكذا وبدلا من توجيه إنذار سوفيتي لإسرائيل، مماثل للإنذار الذي وجه للمعتدين عام 1956، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، اكتفت القيادة السوفيتية الجديدة التي قادها ليونيد بريجنيف بتوجيه بيانات الإدانة والاستنكار، دون إقدام على فعل حقيقي يجبر الكيان الصهيوني على وقف عدوانه. فكانت النتيجة الهزيمة المنكرة التي لحقت بالجيوش العربية.
ليست هذه محاولة لتبرئة الجيوش العربية من مسؤوليتها، فهي المسؤولة أولا وأخيرا عن نتيجة الحرب، ولكن تسليط الضوء على جانب لم يحظ بما يستحق من اهتمام. وفي الفواجع والنكسات عبرة لمن يعتبر.