الخلاف الفقهي الناشئ عن اجتهاد ليس هو في الحقيقة بخلاف، قال العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -يرحمه الله- في مجموع رسائله وفتاواه، قال عن أهل السنة إنهم "يرون أن الخلاف الناشئ عن اجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس في الحقيقة بخلاف، لأن كل واحد من المختلفين قد تبع ما يجب عليه اتباعه من الدليل الذي لا يجوز له العدول عنه".

فاتباع الدليل إذن هو المطلوب واستفراغ الوسع هو المطلوب حتى وإن اختلفت النتائج، وإذا كان الأمر هكذا لم يحق لأحد أن يجبر أحدا على رأيه واجتهاده، أو اجتهاد من يثق بهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين.

ولهذا يجوز لمن يرى أن أكل لحم الإبل موجب للوضوء أن يأتمّ بمن لا يرى ذلك إذا أكل لحم إبل فلم يتوضأ، لأن صلاة هذا الإمام عند نفسه صحيحة، وإن كانت هي عند المأموم باطلة لأنه يرى أن الإمام صلى بغير وضوء، لأن الخلاف الفقهي في هذه المسألة ليس بخلاف حقيقي كما يرى ابن عثيمين.

لكن في تاريخنا مع الأسف كان الخلاف يصل إلى درجة الاقتتال بين المسلمين بسبب التعصب للرأي، فلا يرضى متمذهِب من آخر إلا أن يكون على مذهبه، وإلا فالويل له!

روى ياقوت الحموي أن مدينة الريّ قد خربت فيها ديار الأحناف، بسبب الخلاف والاقتتال المستمر بين الحنفية والشافعية، حتى لم يبق في الريّ حنفي، إلا من يخفي مذهبه عن أخيه الشافعي، أي أنه يمارس التقيّة!

وكذا ذكر ابن كثير وابن الأثير وغيرهما، أنه جرت فتنة شديدة بين المسلمين في أصفهان عام 560، بين الشافعية ومناوئيهم، فاقتتل الناس قتالا شديدا لمدة ثمانية أيام، قُتِل فيها خلق كثير.

وذكر ابن نجيم الحنفي في كتابه البحر الرائق شرح كنز الدقائق ما ذهب إليه بعض الحنفية من تحريم تزويج الحنفية من الشافعي، لأن الشافعي يستثني في الإيمان، أي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فشك في إيمانه – كما يتوهمون- ولكنهم أجازوا للشافعية أن يتزوجها الحنفي، قياسا للمرأة الشافعية على الكتابية!

هكذا يكون التعصب رفيقا للإلزام بالرأي والإكراه عليه بالقوة والاقتتال.

صحيح أن هذه الصور البشعة لم تعد موجودة هذه الأيام ولله الحمد، لكن الفرق بين ما نشهده اليوم، وما كان يمارس في الماضي إنما هو فرق في "الدرجة" وليس في "النوع"، فلا يزال هذا الهياج والتعصب- وما ينتج عنهما- موجودين نراهما ونتابعهما بدرجة تزيد أو تنقص إلا أنهما موجودان مع الأسف.

وإذا كان الخلاف الفقهي ليس بخلاف حقيقي -كما قال العلامة العثيمين- لم يجز على أساسه أن يكون هناك تباغض وتعادٍ وشنآن، فضلا عن الإلزام والإكراه وممارسة الضغوط.

لقد رأينا ونرى طلاب علم أو غيرهم ممن يصرّح برأي في مسألة يتسع لها الفقه الإسلامي، وله فيها سلف من الأئمة أو الفقهاء فيلقى أنواعا من الضغط والإيذاء والتهديد والوعيد والتهييج وتسليط العامة بطريقة أو بأخرى، دع عنك تشويه السمعة، وربما السعي في الإضرار في الرزق. وكل هذا داخل في (الإكراه) و(الإجبار) و(الإلزام) بالرأي الفقهي.

لقد تكلم فقهاء المسلمين عن (الإكراه)، وجعلوا له حدودا، ورتبوا على هذا أحكاما، لا داعي للتفصيل فيها في هذا المقام. لكن من المفيد نقل ما ذكروه حول كيف يكون الإكراه، قال ابن الملقن في شرحه لصحيح البخاري "واختلفوا في حد الإكراه، فروي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: ليس الرجل بأمين على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته"

وقال ابن مسعود: ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به، وقال شريح والنخعي: القيد كره والوعيد كره والسجن كره.

فليس الإكراه إذن مقتصرا على القيد والسجن والضرب فما فوقها، ولكنه يشمل كذلك التخويف والتهديد من القادر عليه، سواء أكان سلطانا أو غيره. فما القول فيمن يمارس الإكراه بالفعل، دون الاقتصار على مجرد التخويف والتهديد، بتشويه السمعة، ونشر الأكاذيب، وترويج الأباطيل، والسعي في الفصل من العمل، والإضرار في الرزق؟

إن كل تلك الصور داخلة تحت الإلزام بالقوة والإكراه بلا شك.

إن مشكلة هؤلاء الذين يريدون قسر الناس على أقوالهم وآرائهم واجتهاداتهم، مشكلتهم أنهم يظنون أن الحق ينطق على لسانهم، وهي نظرة فيها رائحة من الحلول والاتحاد، فهم الحق، والحق هم!

لكن الحق الذي لا ريب فيه أن "مسائل الاجتهاد لا إلزام فيها" – كما قال العلامة العثيمين يرحمه الله، "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، ج 17: ص52"

أختم مقالتي بكلام مهم للشيخ ابن عثيمين، وقد أرسل له أحد المشايخ رسالة ألفها في زكاة الحلي يستشير فيها الشيخ، فنصحه الشيخ بحذف بعض ما فيها، فقال "والذي أرى في هذه الرسالة الجيدة أن فيها ذكر أشياء يجب حذفها، وترك أشياء ينبغي أو يجب ذكرها".

أما التي يجب حذفها فهي:

أولاً: التنديد بمن يذكر الناس بوجوب زكاة الحلي وينذرهم بما أنذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب، فإنه لا يخفى أن هذا أمر لا يعاب على من يرى صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو مما يحمد عليه المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان عليه تقوى الله تعالى في تبليغ ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصا عند الحاجة إلى ذلك، وكما أن القائلين بعدم الوجوب ينشرون ذلك عن طريق وسائل الإعلام، ودرجات المنابر، ولا يلومهم القائلون بالوجوب ولا ينددون بهم، فيقولوا: إنكم قمتم بذلك معارضين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرون أن نشر أحد القولين في المسائل من باب الإلزام بها، ولا ريب أن من حاول إلزام الناس برأيه فقد بوأ نفسه مكان الرسالة، واتخذ نفسه شريكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسأل الله العافية". انتهى كلام الشيخ. "مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، ج 18: ص 150".

قلت: ها هو الشيخ يُشعر كلامه أن التنديد بالخصوم في رسالة علمية والقسوة عليهم هو من باب إلزام الناس بالرأي، ليقول كلمته العميقة النفيسة "ولا ريب أن من حاول إلزام الناس برأيه فقد بوّأ نفسه مكان الرسالة، واتخذ نفسه شريكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم".

السؤال الذي أختم به مقالتي هذه:

كم يا ترى عدد أولئك الذين يبوئون أنفسهم مكان الرسالة، ويتخذون أنفسهم شركاء لرسول الله؟!