القربة مقطوعة، والنفخ فيها غير مجدٍ، فكل مقالة تمقت التطرف والطائفية، وتكشف عن عورات الحزبية السياسية التي ترفع الدين شعارا في الظاهر، وتمتطيه في الواقع، تُقابل بردود صبيانية، تجمع بين: التطرف، والهمجية اللغوية؛ ولذا لا مفر من هذا القبح كله، إلا بالكتابة عن الإبداع.

أمامي حدث إبداعي اجتماعي يندر حدوث مثله، أو ينعدم، وهو أن يُسمى مولود باسم ديوان شعري، وتكون هدية هذا المولود قصيدة، وديوانا آخر، كما هو الحال عند الشاعر إبراهيم طالع الألمعي، الذي هنأ أحد أصدقائه بمولوده الجديد بأنْ جعل عنوان أحد دواوينه: "نِحْلة سهيل"؛ و"سهيل" مولود،  سماه أبوه سهيلا باسم ديوان سابق للشاعر نفسه، عنوانه: "سهيل اميماني".

 ويعني بـ"النِّحْلة" هدية السمي، فقد جرت العادة، في بلاد عسير وغيرها، أن يهدي المسمى به إلى سميه المولود هدية تكون من أثمن ما يملك، وهم يسمونها "نِحلة"، جاء في اللسان: "والنِّحلة بالكسر: العطية".

 ولمثل هذه الهدية النادرة، دلالة رمزية مؤداها عجز الشاعر عن تقديم هدية مادية نفيسة، ودلالة تتعلق بقيمة الشعر في أوساط أهله؛ ذلك أن احتفاءهم به، بلغ حدود أن يسمي أحدُهم ابنَه بديوان شعر، ثم لا يجد صاحب الديوان هدية أغلى من الشعر، فكانت ديوانا كاملا، يحوي قصيدة طويلة، تجمع بين مقاطع تفعيلية، وأخرى عمودية، فيها فلسفة الشاعر الخاصة، حول هذا الإهداء، وهذه التهنئة، تأكيد مبالغ فيه، على أن هذا السمي سيكون شاعرا، ولن يكون غير ذلك؛ لأن ما حوله كله يزدحم بالشعر، ولأن "نِحلته" كانت شعرا، ولأن الشعر هو أبوه، وليس أباه. يقول:

حرام على الشعر ألا تكون – كما خصك الله – شاعرْ..

وكل أغاني الرعاة حرام علي – كحرْمة يومك هذا – إذا لمْ تكنْ أنْت شاعرْ

ولا شعْر في الكون إنْ لمْ تكنْ أنته، أو مشاعرْ

وشمّ الجبال التي أنْجبتْك تخاصم فيّ الخلود إذا لم تعطرْ شماريخها يا ابن مجد الأكابرْ

أبوك هو الشعر ليس أباك..

وجدك تلْك النواصي التي أنبتت من طروق الرعاة الحفاة مزامير داود توحي

بألْواح ما في الزبورْ..

فهو يؤكد على أن هذا المولود لا بد أن يكون شاعرا، مضمنا جملة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع، وهي: "كحرمة يومكم هذا"، موجها الخطاب إلى المفرد، ليهب يوم مولد هذا السمي أهمية تاريخية تخلده في ذاكرته، وفي ذاكرة الشعر، ثم ينسب السمي إلى الشعر، ويجعله منحدرا من غناء الرعاة الذي أوحى إلى الأنبياء بما ارتبط بهم من كتب، وتلك مبالغة غير مقبولة، لكن حرْص الشاعر على صنْع هالة أسطورية حول المكان والحدث، جعله يلجأ إلى ذلك.

القصيدة ذات أبعاد اجتماعية وفنية جميلة، وإنْ كان أحد الخبثاء من أصدقاء إبراهيم طالع قد استنبط منها عنوانا مناكفا، هو: "بخل الشعراء: إبراهيم طالع أنموذجا".