يحلو لبعض العرب اتهام السعودية أو وصفها بأنها دولة رجعية ذات طبيعة منغلقة، وهي نظرة تعسفية خصوصا في وقتنا الراهن حيث لا تمت للواقع بصلة، ولكنه غل النفوس وما أدراك ما النفوس أو لعله جهل العقول ونقص المعلومة.
فالمتابع للمشهد السعودي يلحظ أن ثمة حراكا لافتا ونقاشات جريئة وتنويرية غير مسبوقة طالت ملفات اجتماعية وفكرية وثقافية، بصرف النظر عن الآراء والتوجهات والمواقف حيالها والتي قد نتفق أو نختلف معها، وليس هذا المهم بل الأهم في تقديري هو الاعتراف بوجودها ومن ثم طرحها ومناقشتها علنا كون ذلك السبيل الأنجع لمعالجتها، لا سيما في وجود ملفات ملحة كالتطرف والبطالة ووضع المرأة ومسألة فك الاشتباك بين ما هو ديني وما هو اجتماعي، وكلها قضايا بحاجة إلى حلول ومعالجات، ولذلك تعلم السعودية -وهي في حركتها الدائبة- أن أمامها تحديات جسيمة سواء في الداخل أو الخارج، يأتي في مقدمتها أوضاع داخلية تمس نسيجها المجتمعي ومشاريع إقليمية توسعية تستدعي الحذر منها ومواجهتها والتأهب لها، ومناخ عالمي جديد يتطلب الانخراط فيه.
غير أن اللافت هو في هبوب رياح نقدية غير مسبوقة ومراجعة مفاهيم وقناعات فكرية أفرزت نفسها ضمن مواجهات علنية بين بعض مكونات المجتمع في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بالتطرق لمسائل مسكوت عنها لم يكن من المتصور طرحها أو الاقتراب منها قبل عقدين من الزمن كقضايا التطرف والمذهبية والطائفية، بغض النظر عن أي اتجاه انطلق إليه الحوار أو أية نتيجة توصل إليها كونها ليست مثار نقاشنا هنا.
ويبدو أننا قد تجاوزنا مرحلة الحساسية المفرطة من الاقتراب من مناقشة همومنا وقضايانا أو ما أسميها المجاملة الاجتماعية ولا أقول النفاق الاجتماعي، ومقولة أن كل شيء على ما يرام ولا حاجة لنا بنشر غسيلنا.. إلخ، وهذه ظاهرة إيجابية وخطوة على الطريق الصحيح، وبالتالي نحن نعيش الآن مرحلة تسمية الأشياء بأسمائها قبل الوصول إلى المرحلة التالية وهي النضوج الفكري وقبول الآخر.
على أن هذا التفاعل المجتمعي يظل متصورا وحتميا في سياق التحولات الاجتماعية والثقافية وآلية التفكير التي تطرأ على أي مجتمع إنساني، وهي التي عادة ما تستغرق وقتا لبلورتها ومن ثم تتضح صورتها في نهاية الأمر، كون الفهم عملية تحليلية تحتاج لمراحل زمنية متتالية من أجل أن تصل لمرحلة النضج واكتمال النمو الفكري والثقافي. ولذلك فهذه الحالة التي نمر بها تستحق التأمل والدراسة والتي تبلورت من انفتاح معرفي وثقافي بسبب الانفجار المعلوماتي الهائل، حيث كان الجيل السعودي الأكثر تعرضا لهذه الموجة وهو ما انعكس بطبيعة الحال على نمطية التفكير وأسلوب الحوار وطرح القضايا. وقد لمسنا ذلك رغم كل الإفرازات السلبية من مماحكات وصخب ولغة ومفردات واتهامات وتعصب وتمييز وتجاوزات وأخطاء، وهي متصورة وطبيعية نظرا للتجربة الوليدة التي يعيشها مجتمعنا، ولكنها إن أردنا الحقيقة مظهر حضاري ومناخ صحي يقودان إلى تلاشي هذا المناخ الملوث واقتلاع الأشواك، وبالتالي تنضج التجربة وهو مسلك ضروري لا بد من عبوره والتجاوز من خلاله إن أردنا الوصول إلى شاطئ الأمان.
إن القضايا المطروحة في السعودية والنقاش الدائر بشأنها من نقاشات مثقفين، وحجم المقالات الصحافية المليئة بالنقد، والحراك الاجتماعي في الملتقيات وطرح القضايا بصوت مسموع؛ كلها صور وأجواء لم يعتدها المواطن السعودي، ولكنها ظاهرة اجتماعية تقتضيها متطلبات العصر ولا بد من ممارستها وتجرع صنوفها بكل ما فيها من أجل المرور إلى مرحلة أفضل ضمن السياق الإنساني والاجتماعي. وبما أن المجتمع السعودي ليس مجتمعا ملائكيا كان عليه أن يواجه ذاته بذاته، ولذلك كان منطقيا أن تتراكم التجربة السعودية عبر التاريخ لتجسد استقرارا سياسيا وأمنيا مقبولا في ظل معطيات وتحولات في منطقة متوترة وغير مستقرة. وهذا ما يلفت لها النظر فضلا عن القدرة في تغيير المجتمع البدوي البسيط إلى مجتمع عصري ذي مكونات مجتمعية وقيمية معينة. وهنا يتضح دور القرار السياسي الذي كان ولا زال يتقدم المطالب الاجتماعية بمراحل ويدفع باتجاه التطوير ضمن منظومة استشعارية للمجتمع، تجس نبضه ومدى قدرته على الاستيعاب والاستجابة، فالقيادة السياسية ترى شيئا قد لا نراه، ولعل هذا ما يفسر دراية السلطة السياسية بما يحدث حولها، وأن تكون ناقدة لذاتها، متفاعلة مع ما حولها، ومتوازنة ما بين مصالحها ومطالب شعبها، ما يجعل النتيجة هي الاستقرار والنمو والإنتاجية.