قبل أعوام من بدء الثورة في سورية، التقيت العماد الراحل آصف شوكت -زوج بشرى الأسد شقيقة بشار- نائب رئيس الأركان والمكلف بمتابعة ملف الإعلام السوري آنذاك.
الزيارة تمت بناء على طلب شخصي منّي ودون أي وساطة أو تزكية، دافعي إليها سخطي الشديد على الفساد والأخطاء المتزايدة في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، إذ كنت أعمل مذيعة، ويأسي من أن يتمكن وزير الإعلام أو الجهات الرقابية من فعل ذلك في ظل عجزهما المتفاقم أمام سطوة الأجهزة الأمنية وتوغل مافيات الفساد.
توجهت في تلك العشية إلى مكتب العماد المجاور للإذعة والتلفزيون في هيئة الأركان وطلبت الدخول إلى المبنى بصفتي مذيعة، ثم التقيت مدير مكتبه الذي كان ودودا وشديد التهذيب، عرفته بنفسي وقلت له إن هدفي من الزيارة إطلاع العماد على ما يجري في الهيئة من صفقات وأعمال فساد تسيئ إلى الدولة والإعلام السوريين، ولخطاب "الرئيس الشاب" بشار الأسد الحافل بشعارات مكافحة الفساد، وكيف أن معظم من يتم تعيينهم كمدراء لا يمتلكون الحد الأدنى من الكفاءة أو الأخلاق أو الحزم، وهو أمر لا يمكن الاستهانة به في ظل الدور الخطير المنوط بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، بصفتها الصوت الإعلامي الوحيد في بلاد بحاجة ماسة لتفعيل وعود الإصلاح، وإني أود مقابلته كمواطنة سورية لم تعد تحتمل الصمت على هذا التخريب الممنهج لأحلامنا التي أيقظها مجيء "القائد الشاب" إلى سدة الحكم، وكنت أعتقد حينها مع غيري من الصحفيين أن الحلقة الضيقة المحيطة ببشار والتي أسميناها الحرس القديم هي المسؤولة عن وأد "ربيع دمشق"، ولا تفتأ تحاول إفشال أي مسعى جدي للإصلاح من الرئيس الشاب.
حدد لي مدير المكتب المهذب موعدا بعد أيام للقاء العماد وهو ما حدث، الرجل الأسمر، المثقف، الحازم، صاحب الشخصية الفذة والشديد التهذيب أيضا.. استقبلني وسمع شكواي واستيائي ومقترحاتي، عنوانها الرئيس أننا في حاجة إلى ثورة ضد الفساد ورموزه لإنقاذ بشار الأسد ممن يحاولون إفشاله في مهماته الوطنية الإصلاحية، وعلى رأسهم أصحاب المصالح والشراكات القديمة مع نظام الحكم السابق وتيار رؤوس الأموال المنتفعين والمتسلقون الجدد، خرجت من اللقاء مسحورة بشفافية الرجل وحرصه على دعم هذه الثورة، ومنتشية بالإنجاز الوطني الذي حققته، ثم بشرت حلقة الأصدقاء الصحفيين المقربين مني بأننا لسنا وحدنا في المعركة، فآصف شوكت الذي يمثل رئيس الجمهورية معنا، وقد كلفنا بإعداد ملفات واسعة حول الفساد في الإعلام.
كانت تلك الفترة ممهورة بالتخبط في القرارات الإدارية وتميز حكم القائد الشاب بالتغيير المتكرر والسريع وغير المدروس للمديرين والمسؤولين، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن واحدا من زملائنا الصحفيين المشهود لهم بالمهنية العالية والجدية ونظافة اليد، كُلف من قبل بشار شخصيا بإدارة الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ثم أقيل بعد أشهر عدة، لأنه وببساطة كان مصمما على تأدية واجبه بأمانة، وتطهير الهيئة من المخربين والمرتزقة واللصوص، وعدم الانصياع إلى تليفونات الضغط والمحسوبية، الأمر الذي لم يكن مسموحا به من قبل "عصابة الفساد" الرؤساء الفعليون لسورية الأسد، حدث أيضا أن أقيل مدراء عدة من مناصبهم بتهم فساد "مؤكدة" ثم أعيدوا مجددا ثم أقيلوا مرة أخرى ليعودوا بعدها إلى مناصب أكثر حساسية، إضافة إلى اجتراح لجان وهيئات لمكافحة الفساد نجحت تماما في تطبيق المثل الشعبي "حاميها حراميها"، وهكذا بدا واضحا أن بشار يخضع لضغوط وتضليل من حوله، أو أنه غير ذكي ومتردد وضعيف ولا يتمتع بالحزم المطلوب، أو الاثنان معا، ولم يكن ليخطر في بالنا على الإطلاق حينها أنه قد يكون متواطئا مع هذا التخريب المجنون للبلد.
الفساد في الإعلام السوري كان نموذجا لما يحدث في الوزارات والمؤسسات والهيئات والقرارات الأخرى في سورية، إلا أنه كان فقط أكثر فظاعة فمن غير الممكن عدم ملاحظة مذيع أقرط اللسان أو برنامج سخيف على الشاشة الوطنية الوحيدة، وقد أسر لي أحد المقربين من بشار الأسد حينها أن "الرئيس" محبط لأنه كلما اختار شخصا لتكليفه بمسؤولية ما يفاجأ بفساده حتى إنه قال: "أسأل عن الشخص فيقولون عنه أنه نظيف ثم أكتشف بعد تعيينه أنه فاسد، من أين سأجيء إليكم بمدراء ووزراء جيدين؟".
ولا بد من الإشارة إلى أن الفساد كان مستشريا في عهد حافظ الأسد إلا أن الحزم والقوة والدهاء الذي تمتع به الأب جعل من حوله أكثر حذرا وخضوعا ووفاء له، كما جعل قراراته واستراتيجياتيه أكثر براغماتية وذكاء واتزانا وحسما، ما ميز مرحلته بمعاهدات طويلة الأمد مع فاسدين حذقين.
ابتهجت أنا وبعض زملائي بلقائي "التاريخي" مع الراحل آصف شوكت، وبدأنا بالعمل بالسرية الممكنة معتقدين أننا سنخرج الزير من البير، وما هي إلا أيام حتى وصلنا تهديد جدي من جهات نافذة بإمكانية اتهامنا بقضايا فساد إذا ما حاولنا كشف المستور وطردنا من العمل.
لم نكن شجعانا بما فيه الكفاية كي نواصل مهمتنا، وصمتنا كما صمت السوريون لعقود قبل الثورة، وقطعت أي اتصال لي بمكتب الراحل متذرعة بضيق الوقت وصعوبة الحصول على إثباتات ووثائق تدين المخربين، ولم أحاول بعدها إطلاقا رؤية الرجل الذي آزرنا، لخوفي من التهديدات السابقة، ويقيني باستحالة التغيير في ظل التشابك الوثيق بين شبكات الفساد في جميع المواقع وعدم جدوى أي محاولة.
استمر الفساد في سورية وتحول من إهدار المال العام والإعلام السوري إلى إهدار دماء السوريين الذين احتجوا على اعتقال أبنائهم في درعا، وبعد عام من بدء الثورة السورية قتل العماد آصف شوكت في ظروف غامضة ويرجح أن الحرس الثوري الإيراني قام بتصفيته، فيما لا يزال عاطف نجيب، ابن خالة بشار والمسؤول عن اعتقال أطفال درعا، حيا وحرا طليقا دون عقاب حتى اللحظة.
عندما أتذكر تلك العشية ساعة لقائي اليتيم بآصف شوكت قبل سنوات؛ ترن كلماته في أذني "نعم نحن بحاجة إلى ثورة".. وأيضا ما أسر به إلي صديق زاره بعد أيام من انطلاق الاحتجاجات في سورية، مشيرا إلى صورة حافظ الأسد المعلقة على الجدار خلف مكتبه: "كم سنترحم على أيامه..".