في كتابه "نقد الرأي العام" الذي نشر في 1922 وترجم مؤخرا إلى اللغة الفرنسية، يحلل الكاتب الألماني فرديناند تونيس Ferdinand Tönnies أحد مؤسسي علم الاجتماع، ظهور المحكمة الأخلاقية للرأي العام في المجتمعات الحديثة. وعلى ضوء ذلك هل نستطيع أن نسمي ما ينشره ويكتبه رواد مواقع الشبكات الاجتماعية "رأيا عاما"؟ أليس من بين هؤلاء الجهلة والحمقى؟! هل هناك رأي عام حر مع مراقبة جميع وسائل الإعلام سواء كانت تلك التقليدية أم الإلكترونية؟ هل يحق لنا أن ننتقد هذا الرأي العام أم نكتفي بالقول: الجميع حر في كتابة ما يشاء حتى لو كان يسب ويقذف الآخر... هل هو حر؟ فهذا الآخر يبدو له مجموعة من الصخور المتراكمة فوق بعضها البعض ولن يتأثر! هل الرأي العام هو دين العصر الحديث الذي يحرم ويحلل ويقبل ويرفض ما يشاء وبناء عليه يعيش الأفراد؟ هل الرأي العام بطبيعته جمعي، وصوت للأكثرية أو صراعي وتعارضي؟ كيف أسمح لهذا الرأي العام أن يسير حياتي كيفما يشاء حتى لو كان رأيه بي مبنيا على أكاذيب وأوهام رسمها له خياله؟ هل يعبر الرأي العام عن إرادة المجتمع بمختلف طبقاته؟ أم أنه يعبر فقط عن رأي نخبة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن ثم هو جمهورية النخبة؟ هل نستطيع الوثوق بهذه النخب؟ هل تعبر هذه النخب فعلا عن معاناة الشعوب أم تتبع إرادة السلطات لا سيما في دول العالم الثالث؟ أسئلة كثيرة تدور في فلك تفكيري حيال هذا الموضوع وأبحث عن إجابة مستفيضة لها.
تستند انتقادات الرأي العام كليا، كما يقول تونيس، إلى "نمط" التفسير العام المقترح من قبل الجماعة والمجتمع في جانبها الأكثر إشكالية. على المستوى الاجتماعي، تترجم عبر مفهوم "الإرادة الاجتماعية"، "الوعي الجماعي"، و"تأثير البنى الاجتماعية على الأفراد".
في عام 1901، في الكتاب الرائد "الرأي والجمهور" L’Opinion et la Foule، فسر عالم الاجتماع الفرنسي (جابرييل تارد) كيف أصبح الرأي العام مركزيا مع تطور الصحافة في القرن الثامن عشر، ويطرح نفسه كمنافس للعقل. (تونيس) أيضا أقر بأهمية دور الصحافة في تشكيل وتأسيس الرابط الاجتماعي بين الآراء الفردية. في المقابل، يعتقد (تونيس) أن الرأي العام لا يمكن وصفه باللاعقلاني أو اللامنطقي، ويختلط بالمعتقدات الشعبية. وكما نعلم يمثل المعتقد دائما الأشياء الثابتة غير القابلة للزعزعة، في حين يخضع الرأي للتغيير كما يرتبط بالمعرفة المتاحة للفرد والجماعة. باللغة الألمانية، كلمة رأي opiner تعني التفكير. والرأي هو وجهة نظر أو حكم شخصي ليس بالضرورة أن يكون صحيحا، الرأي أيضا هو مجموعة من الأفكار التي نعتنقها، لكل منا رأيه السياسي، على سبيل المثال، هناك أتباع للدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"!!
واجتماعيا، لكل منا -مثلا- رأيه الاجتماعي في زواج القاصرات وتعدد الزوجات، ولكل منا أيضا رأيه الاقتصادي في هذه الشركة أو تلك. يصدر الرأي الشخصي عن فرد وهو خاص في حين يمثل "الرأي العام" طريقة تفكير المجتمع ككل أو الجمهور.
نستطيع تشبيه الرأي العام بجمعية عامة يتناقش فيها أعضاؤها لاتخاذ قرار، وقد تتضارب آراء الأعضاء فلا يتفقون ومن ثم لا قرار. حتى لو كانت المجموعة قوية في الدولة الحديثة، فإن هذا لا يعني ثبات الرأي العام القابل للتغيير وفقا لتغير قناعات الناس وصراعاتهم. تصنع وسائل الإعلام الرأي العام وتشارك في إظهار الحقيقة للناس أو تزييفها وفقا لأهداف وسياسة كل منها، لذا يسمي البعض هذه المؤسسات الإعلامية بـ"الوسائل الخادعة"، فبدلا من أن تكون محايدة تدافع عن مصالح محددة للقوة المسيطرة عليها. ونحن نمر بتغييرات هيكلية في منطقة الشرق الأوسط، تسعى وسائل الإعلام إلى السيطرة على الفضاء العام بشتى الطرق النفسية والاجتماعية. استطرادا في نفس الفكرة، يمكن التلاعب بالرأي العام أو التلاعب بالجماهير عبر تقنيات عدة، هذه التقنيات تستند إلى حقيقة أن الناس تتفاعل وتستجيب إحصائيا بطريقة يمكن التنبؤ بها وفقا للمثيرات أو بيانات المعلومات. على سبيل المثال: تعد وسائل التسلية والترفية إحدى هذه التقنيات بهدف صرف المواطنين عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية والإصلاحات التي تطالب بها النخب السياسية والاقتصادية. بالإضافة إلى منعهم من اكتساب المعرفة العلمية، الاقتصادية والسوسيولوجية.. إلخ. تقنية أخرى: تكرار الرسائل عبر الإعلانات التجارية والبرامج التلفزيونية التي تريد القوى المسيطرة فرضها على الشعوب لغرسها في لاوعي المجتمعات تدريجيا ولتغيير مجموعة من القيم والسلوكيات.