المشهد الأول: كنت وسط الشهر، وفي ليلة قمر أبيض مكتمل، أجوب أزقة وشوارع قرية "الحصن" في ظهران الجنوب، تلك القرية التي كانت هدفا لبضع طلقات من خلف الجبل اليمني المرتفع فوق هذه القرية الحدودية. هذه القرية، وبالتقريب، ليست فقط آخر قرى الحدود السياسية ما بين بلدين، بل هي أيضا آخر قرى حدود المذهب الحنبلي في مواجهة قرية زيدية على بعد كيلين فقط في البلد المجاور. تقول حقائق التاريخ إن "المذهبين" تجاورا في قريتين لما يقرب من ألف سنة من قبل دون طلقة واحدة. غادرت قرية "الحصن" منتصف المساء فلم أسأل أبدا عن آثار طلقات "الهاون". كان سؤالي الوحيد عن آلاف طلقات اللسان وعن ثورة الخطب الطائفية البغيضة التي لم تترك في عالمنا العربي خريطة قريتين متجاورتين إلا ودخلت بينهما بالتصنيف والتجييش. قرية الحصن في ظهران الجنوب هي أخت القرية الأخرى "جرود عرسال" على الحدود اللبنانية السورية... وهذا يكفي.

المشهد الثاني: خذوا هذه الحقيقة الجغرافية التاريخية: يتكئ ما كان يسمى بـ"اليمن السعيد" على موقع جغرافي ديمغرافي اجتماعي قل أن يوجد مثله على كل الخريطة الكونية. ينام اليمن من الغرب والجنوب على "مخدة" سلام لبحرين هائلين ويفتح نوافذ الشمال والشرق على حدود دولتين ومجتمعين "عمان والسعودية" لم يعرف عنهما من قبل نزعات الحروب وهتك الحدود وقتال الشقيق. هنا يبرز السؤال: لمن وضد من احتاج هذا "اليمن" أن يصرف ثلث موارده في بناء جيش وقوى عسكرية؟ في هذا الموقع الجغرافي الفريد، لماذا صرف هذا البلد الفقير ثلث موارده على شراء الطائرات والصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي؟ لماذا ومن أجل من وضد من بنت هذه العقول "المريضة" عشر قواعد جوية واشترت خمسين طائرة مقاتلة وتسلحت بمئتي صاروخ باليستي؟ كان لهذا "اليمن" الغالي، أن يكون في خريطة هذا العالم العربي "سويسرا" الشرق. كان له أن يتكئ على نعمة الجغرافيا كي يصرف كل موارده على بناء الإنسان، وكان له أن يعيش دون الحاجة أبدا أبدا لقاعدة عسكرية أو صاروخ أو طائرة مقاتلة. كان له أن يعيش في حالة نادرة بين كل مجتمعات الكون بلا أوهام العدو.

خلاصة القول: زرت هذا اليمن سائحا قبل أعوام عدة: بكيت بصحبة صديق ذات صباح ونحن ندخل منزل بضعة أيتام في قرية فقيرة في شمال "إب" وهم يبكون لأنهم لا يستطيعون "فتح" عيونهم من الصمغ الأحمر بسبب مرض "الرمد". بكيت لأنني تذكرت نفس الأيام والآلام، معي شخصيا، في قريتي قبل أربعين سنة، حزنت اليوم لأن قيمة طائرة واحدة، في بلد بلا عدو، تستطيع تأمين عشرة آلاف وحدة غسيل للكلى في بلد يموت به يوميا ما يزيد عن 30 شخصا بسبب السموم. لأن قيمة صاروخ "سكود" واحد تستطيع أن تقبر الرمد وتنهيه من عيون آلاف الأطفال.. سؤال النهاية: لماذا يحتاج مثل اليمن إلى جيش؟