منذ عام 2001 وإلى الآن كُتبت آلاف المقالات والكتب والدراسات التي تناقش قضية "الإرهاب" وخاصة في المملكة العربية السعودية، كلها تحاول أن تتلمس "الأسباب" الكامنة وراء انخراط بعض شبابنا في عمليات مميتة مثل التكفير والتفجير والقتل وترويع الآمنين، دراسات ومقالات وأفكار كثيرة كلها تهدف إلى فهم هذه الحالة الغريبة والبعيدة عن جو السعودية وتاريخيتها، ودخلت التوجهات في حالات كثيرة من التلاوم، كل فرقة تحاول أن تلبس الفرقة الأخرى الأسباب، وجماعات مسيسة ومؤدلجة تحاول تمرير مشاريعها الفكرية والأيديولوجية من خلال اقتناص حالة الإرهاب لتجعل مشروعها هو البلسم الشافي من هذا الداء الخطير والمستشري في ربوعنا، وكتاب يطرحون أفكارهم من منطلق الاستقواء بالأحداث للي ذراع الحكومة على قاعدة "افعل وإلا"، ومفكرون وضعيون انقضوا على الخطاب الشرعي والدعوي وحملوه وزر ما يجري، فمرة يتهمون "الوهابية والسلفية" ومرة يتهمون "حلق تحفيظ القرآن"، ومرة يتهمون "التاريخ الإسلامي" حتى وصل الحال ببعضهم إلى اتهام "السنة" نفسها بأنها عامل محرض على الإرهاب، حتى تجرأ أحدهم ووصف الخليفة أبا بكر الصديق بما ليس فيه.
إن النظر للحدث من خلال نافذة "التصفية الأيديولوجية" لا يمكن أن يؤتي ثماره، ولا يمكن كذلك أن تؤتي النظرات الانطباعية العجلى الثمار أيضا، ولا يمكن كذلك أن تكون النظرات التي تحوم حول الحمى ولكنها لا تضع يدها على الجرح تؤتي ثمارها في تلمس الأسباب ومن ثم طرح الحلول والعلاج، ولا يمكن أن تنجح النفسيات الحساسة المتوجسة التي ترى في كل سبيل لفهم الظاهرة تشويها لصورة الدعوة والرسالة، وكأن هؤلاء يعترفون ضمنا بأن الخطاب الشرعي مسهم في هذا الأمر، ولذا يتحاشون الحديث عن الأمر ويهربون من مواجهة الحقائق.
منذ 2001 ناقشت مئات المنخرطين في هذه الجماعات، وقرأت مقررات هذه الجماعات وأفكارهم، وحاورت بعض رؤوسهم ومفكريهم ومنظريهم، وتابعت أدبياتهم التاريخية وتراجعاتهم، وقد توصلت إلى حقائق خاصة، ورؤى قد يخالفني عليها البعض، إلا أني أزعم أني توصلت إليها من خلال رصد معرفي وفكري ومعايشة لهذه التيارات سنوات طويلة في الفضاء الحقيقي والافتراضي عبر الشبكة العالمية، فتكونت عندي فكرة في "توصيف" الظاهرة ومسبباتها بشكل قد يسهم في العلاج.
ولا شك أن النجاحات الأمنية كبيرة جدا خلال السنوات المنصرمة، ولا تزال الجهات الأمنية تسجل نجاحات متواصلة ومتميزة، ولكنها نجاحات في إبطال واستباق الأفعال التي هي نتيجة لمنظومة فكرية وسياسية، والحديث هنا عن "المكون" الفكري والعلمي لهذه الجماعات وكيف تفهم أسباب انخراط الشباب في هذه الأفكار المدمرة والخطيرة، فمن محيل الظاهرة إلى عامل اقتصادي، ومن قائل بأن العامل فيها عامل فكري شرعي متعلق بالخطاب الديني والشرعي، ومن قائل بضلوع المخطط الخارجي في تعبئة الشباب، ومن قائل بأن المؤثر فيها هو العامل الثقافي الاجتماعي، ومن محمل الأمر مناهج التعليم الرسمية، وكل يعمل على شاكلته في تلمس الأسباب ومن ثم طرح الحلول.
والمشكلة التي تعتري هؤلاء القارئين جميعا للقضية هي حالة الانفصال بين التفكير "الذهني الكلي" والتصورات المجردة، وعدم انطباقها على الحالات الفردية خارج الذهن، فالقضية الكلية لا تنسحب على جميع الأفراد، فلكل فرد من هؤلاء المنتسبين حكاية، ولكل فرد سبب، ولكل فرد عامل مؤثر، وهذا لا يتأتى إلا بدراسة شاملة وعملية محكمة للدوافع الذاتية للأفراد ودراسة سيرهم وتاريخهم وكيف استقطبوا لحضن هذه الجماعات.
وبغض النظر عن حالات الأفراد المنتسبين، فإن علينا أن نفهم الأمر في سياق "المشروع الفكري السياسي" الذي يقوم على أساس عقدي ديني، فالجماعات السياسية الإسلامية القتالية كداعش والقاعدة وتفرعاتها الكثيرة التي تخالفها في الحركة وتتفرق معها في الفكر والعقيدة هي في أساس تكوينها "سياسية" تتخذ من الخطاب "التكفيري" مرتكزا لها في حركتها واستقطابها، وهي بهذا تعد امتدادا للفكر "الخوارجي التاريخي"، إذ لا يوجد في التاريخ الإسلامي جماعة تتخذ من تكفير المخالف منهجا عاما في حركتها إلا الخوارج الذين يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم بغير حق ولا هدى، ويفاصلون الأمة ويقاتلونها ويتحزبون على هذا المبدأ المنحرف الضال.
هذه الجماعات وعبر السياق التاريخي المعاصر تطورت أدواتها في الاستفادة من الجماعات الوضعية والسياسية والجماهيرية في "استقطاب" الاتباع، وفحص من يصلح، ومن لا يصلح للاستقطاب من المستهدفين من فئات المجتمع ذكورا وإناثا، ودخلت في التنظيم عناصر أمنية كانت تعمل في الجيوش العربية كالجيش المصري والجزائري والعراقي وغيرها، فاستفادوا منهم في رسم الاستراتيجيات الفكرية والعسكرية والتنظيمية، واستفادوا استفادة بالغة من الإعلام الجديد والشبكة العالمية، حيث أصبحت ميدانا كبيرا للتجنيد والاستقطاب، ويملكون من الخطاب العاطفي والإعلامي الذي يلهب عواطف الشباب ويضخ معاني الجهاد والاستشهاد، والضرب على وتر مآسي الأمة ومشكلاتها، وتقديم الرموز القتالية التي تشبه نجوم السينما العالمية، ووسم المخالفين بالنفاق والجبن والتخاذل، في مقابل رسم الصورة النرجسية الضخمة لأتباع التنظيم مما أدى إلى التحاق فئات ليست قليلة من الشباب السعودي وغير السعودي في هذه التنظيمات، وخاصة أنها تمتلك أرضية فكرية ومقررات شرعية وخطاب تحريضي أسهم فيه مجموعة من المحسوبين على طلبة العلم والمشايخ في السعودية وغيرها، ليوهموا الشباب بصحة المنهج وسلامة الطريق، إضافة إلى القدرة على تحطيم المخالفين من العلماء والدعاة والمفكرين، ورسم الصورة السيئة عنهم في أذهان الشباب، واعتبارهم أصناما يجب تحطيمها حتى يتفردوا في التأثير على جموع الشباب وقطاعاتهم.
هذه التنظيمات المحكمة والخطيرة هي مخترقة إلى العظم من القوى المعادية للأمة، وسهولة اختراقها تأتي من سهولة ركوب خطابها ومظهريتها التي تمكن أي إنسان من أن يصبح قائدا في صفوف هذه الجماعات، فأكثر الشباب حماسة في التكفير، والتعسف مع المخالف، والشدة والصلف يمكن أن يكون ذا شأن في هذه الجماعات، وقياداتها العليا هي قيادات براجماتية مصلحية تتقاطع مصالحها مع قوى كبرى كما صرح الظواهري بذلك في عدم استهداف إيران لأنها تؤوي قيادات القاعدة وتسهل لها التنقل بين البلاد العربية، وكما أعلن ابن لادن عام 2003 تقاطع مصالحه مع نظام صدام حسين وهم كانوا يكفرونه هو ونظامه والمنتسبين إليه.. يتبع إن شاء الله.