جرت العادة أن يجلس الطلاب أمام معلميهم ليتلقوا دروسهم، إلا أن واقعا جديدا يفرض نفسه علينا اليوم، ويضعنا أمام مفاهيم مغايرة، في مادة "المواطنة"، التي ينبغي تعميمها على مناهجنا اليوم، سواء مناهج أبنائنا الدراسية، أو مناهج حياتنا وسياساتنا، لكن يبقى الدرس المهم والدرس الأول أن أبناء هذا الوطن الصغار يمكنهم أن يتبادلوا المقاعد معنا، ويلقنونا نحن الكبار دروسا قيمة في المواطنة، دروسا باهظة الثمن، فقد دفع عدد من أبنائنا في المنطقة الشرقية أرواحهم فداء لها قبل أيام في محيط مسجد العنود بمدينة الدمام، وهم يحاولون اعتراض سبيل هذه الكائنات المفخخة العقول بفكر الموت والدم، الفكر المعادي تماما لفكر المواطنة والتعايش والاستقرار والبناء والتنمية والسلم الاجتماعي. كان درسا كبيرا من أبنائنا الصغار رحمهم الله جميعاً ورزق أهلهم الصبر والسلوان على فقدهم، فما أقسى فقد الولد وما أوقع مرارته في الحلوق، لكن يكفي عزاء لهم أن أبناءهم كانوا كبارا، وقدموا للجميع درسا كنا في حاجة إليه جميعا، لأنهم ضحوا بحياتهم – رحمهم الله - من أجل حياة الآخرين، في وقت كان فيه غيرهم يسعى لإزهاق الأنفس المعصومة التي حرم الله قتلها إلا بالحق من أجل أوهام في رأسه غرسها صناع الموت في بلادنا باسم الإسلام، والإسلام منهم براء.
وعلى قسوة الدرس الذي لقنه أبناؤنا وفلذات أكباد الوطن التي ارتقت أرواحها إلى بارئها للجميع، إلا أنه يبقى درسا بالغ الأهمية، في وطن ترك بين أيدي أجياله دروسا في الشجاعة والإقدام ورثوها أبا عن جد، حتى أصبحت الشجاعة في جينات أبناء هذا الوطن، وفي وقت كانت فيه شجاعة أبنائنا الذين ضحوا بأنفسهم ليقفوا في وجه ذاك التكفيري المغيب العقل درعا لحماية مواطنيهم، كانت شجاعة الطرف المقابل وبالا علينا، لأنها شجاعة جامحة مضللة غبية جاهلية، وشتان بين شجاع راشد يضحي بنفسه من أجل الآخرين، وشجاع غبي لا يعرف عدوه من أخيه، نعم إن شجاعة كثير من أبنائنا "حديثي السن" في حاجة إلى ترشيد، فظاهرة مثل التفحيط التي تحصد أرواح المئات من مراهقينا، شجاعة تحتاج إلى ترشيد وتوجيه، وظاهرة السرعة الزائدة شجاعة تحتاج إلى ترشيد وتوجيه، فحين تصبح الشجاعة سبيلا إلى الانتحار نكون أمام مشهد انتحار عبثي في غياب التوجيه الحقيقي، ليس من الأسرة وحسب، بل تحت مظلة برنامج وطني شامل، وأحسب أن استثمار تلك الشجاعة الجينية هو أحد أدوات صناع الموت ومن يبثون أفكارهم في عقول شرذمة من أبنائنا حتى يصلوا بهم إلى هذه الحالة المؤسفة ويحولونهم إلى قنابل بشرية متحركة، ثم يلقون بهم في وجوهنا، أو يزرعونهم في مفاصل لحمتنا الوطنية لينفذوا بهم أجندات خارجية لم نعد في حاجة إلى الحديث عنها، فالقاصي والداني يعلمانها حق العلم، ولا سبيل لترشيد هذه الشجاعة الجامحة الغبية الجاهلية في عقول شرذمة من أبنائنا، وتوقي انتشار عدواها للأجيال المقبلة، إلا بغرس قيم المواطنة داخلهم، المواطنة القائمة على القبول بالآخر والاعتراف بحقوقه وأولها حقه في الحياة، المواطنة التي تقوم على حفظ تراب هذا الوطن ومقدراته واستقراره لأننا جميعا لنا مصلحة فيه، بغض النظر عن هوية أي منا، فلا ولاية لأحد على أحد، بل الولاية لولاة الأمر، رموز هذا الوطن، على الجميع، فقط بهذا الفهم يمكننا أن نستمر ونرتقي ونتحقق ونسعد بأجيالنا، لا أن نتوجس خيفة منهم حين يتحولون أمام نواظرنا إلى سلاح في يد عدونا.
نعم كان أبناؤنا ضحايا الحادث الأليم الذي شهدت وقائعه ساحة مسجد العنود صغارا في السن، لكنهم قدموا درسا كبيرا في المواطنة، وفرضوا علينا جميعا أن نجلس أمامهم –رحمهم الله- في مقاعد المتعلمين.