أكتب مقالي عن مدينة (فلورنسا) العاصمة الثانية لدولة إيطاليا، والعاصمة الحالية لإقليم (توسكانا)، والمتضمن مقاطعة (فلورنسا)؛ وأنا أستعد بمشيئة الله لحضور (الملتقى العالَمِي الشَّرقُ والغَربُ.. نَحوَ حِوارٍ حَضارِيٍّ)، بصحبة (مجلس حكماء المسلمين)، وتلبية لدعوة (جمعية سانت إيجيديو).. إيطاليا تختلف في خصائصها عن بقية الدول الأوروبية، فهي بعيدة عنهم جغرافيا، وكأنها معزولة عنهم جنوبا، وتمتاز بدفء مناخ البحر الأبيض المتوسط، ودفء اجتماعي ملحوظ، وهي متحف مفتوح يشهد على عراقة القارة الأوروبية، وحصن معروف للمسيحية الكاثوليكية.. الوجود الإسلامي في إيطاليا نشأ في سياق أفواج الهجرة المسلمة التي عرفتها العقود الأخيرة، والشعب الإيطالي يعد الأقدر أوروبيا على تفهم ظاهرة الهجرة، وضرورات استيعاب المهاجرين في المجتمع الجديد، لأن الملايين من الإيطاليين هاجروا إلى أقطار أوروبا الغربية، وبعضهم استوطن الولايات المتحدة الأميركية للبحث عن فرص أفضل في الحياة، ولذلك لم تكن هناك صعوبات جوهرية في انتظار مئات الآلاف من المهاجرين المسلمين في إيطاليا، خاصة وأن السحنة الإيطالية السائدة تساعد على استيعاب المهاجرين ذوي البشرة السمراء والشعر الأسود.
أما عن مدينة فلورنسا فالموضوع متميز جدا؛ تاريخها يجبر الإنسان على تذكر ما كتب وما قيل عن (عصر النهضة) في أوروبا، والسبب أن النهضة الأوروبية انبثقت منها، وهنا عاش رموزها، ومن أبرزهم الأدباء والشعراء: (جيوفاني بوكاتشيو)، و(دانتي أليغييري)، و(فرانشيسكو بترارك)، وعالم الفيزياء والرياضيات الكبير (غاليليو غاليلي)، ومؤلف كتاب (الأمير): الفيلسوف والسياسي المعروف (نيقولو مكيافللي)، وغيرهم من مشاهير النحاتين والرسامين.. فلورنسا وبحق واحدة من أجمل مدن العالم، بما تضمه من أديرة، ومتاحف، ومعارض، ومتنزهات، ونوافير، وعروض، ومطاعم وغيرها؛ فلورنسا مدينة حية، وتغض بروعة الصناعات الجلدية، والحرف اليدوية، ومختلف أنواع الثقافة، والعلوم.
أذكر ـ للتسلية ـ أن بعض القيادات السياسية العربية في عالمنا العربي لا أشك أبدا في أنهم قد حفظوا عن ظهر قلب كتاب (الأمير) لمكيافللي، والذي ضمنه بحسه السياسي مجموعة من النصائح المقدمة للأمير (لورينزو الثاني دي ميديشي)، وكلها نصائح قائمة على الفصل بين السياسة والأخلاق، ويراها كفيلة بأن تديم حكمه، وترسخ سلطانه، وتوطد أركان عرشه.. ـ وكما يرى مكيافللي ـ في نصائحه للأمير لورينزو ألا يعبأ بالفضائل، بل وأن يلجأ إلى الرذائل إن كان ذلك يحقق مصلحته، فلا يجب عليه أن يكون كريما؛ لأن الكرم يؤدي إلي الفقر، وهو إن افتقر سيخسر هيبته لدى رعاياه، وعليه أن لا يكون طيبا؛ لأن ذلك يثير روح الثورة عليه في نفوس رعاياه. أما القسوة فتقيم النظام، وتمنع الفوضى، وتحقق الوحدة، وتقضي على الفتنة وهي في المهد، كما أن رضا الرعايا متغير، فلا يُعتمد في استمرار الحكم على الرضا، بل على القوة، فبدوامها يدوم الحكم. ويضيف مكيافللي في نصائحه؛ ربما يكون هذا الكلام ليس طيبا، لو أن الناس كلهم كانوا طيبين، لكن الواقع أن الأصل في بني البشر أنهم كذابون، منافقون، غشاشون، جشعون، نهمون، شريرون، لا يتطلعون إلا إلى ما ليس في أيديهم.. إذ إن عليه أن يكون (ثعلبا) و(أسدا) في ذات الوقت، وعليه أن يتزين بحلل زائفة من الصدق والسلام والعدل والوفاء.. الكلام طويل، وأختمه بالدعاء بأن يخلص الله شعوب المنطقة من كل زعيم تخرَّج من مدرسة ميكافيللي.. آمين.