قصة نشوء الدولة العثمانية، كانت بدايتها، عندما قدم جماعة من إحدى قبائل الغز البدائية الوثنية، إحدى قبائل آسيا الوسطى، والتي كانت مشهورة بقوتها وشراستها في الحروب، من آسيا الوسطى إلى الدولة السلجوقية، في الأناضول. حيث منحها سلطان الدولة السلجوقية، علاء الدولة، منطقة أسكي شهر المحاذية لحدود الدولة البيزنطية؛ ليقفوا سدا منيعاً ضد الهجمات البيزنطية على حدود الدولة البيزنطية. كان قائد الجماعة هو أرطغرل، ابن سليمان شاه، حيث توفي سليمان في شمال سورية، أثناء تنقلهم من آسيا الوسطى إلى آسيا الصغرى، مروراً بإيران والعراق، ودفن فيها. عندما تولى أرطغرل إمارة منطقة أسكي شهر، غرب الدولة السلجوقية، وكون قومه قوم حرب وقتال، وبنفس الوقت وثنيون بدائيون؛ أبهرهم ما شاهدوه من نعيم وثروات وخيرات في مناطق الدولة البيزنطية المحاذية لمنطقتهم السلجوقية؛ وعليه باشروا بهجماتهم على الحدود البيزنطية، ونهب الثروات والخيرات منها؛ وتدمير معالمها الحضارية.

في نهاية عمره، تخلى أرطغرل عن وثنيته وأسلم، وتبعه قومه، وأصبحوا مسلمين موالين ومخلصين للدولة السلجوقية المسلمة؛ بدل أن كانوا فقط مرتزقة، مأجورين للدفاع عن حدودها الغربية. وتوفي أرطغرل، وتولى إمارة أسكي شهر السلجوقية بعده ابنه عثمان؛ الذي أسلم من صغره مع والده وقومه. وأخذ عثمان يمدد حدود منطقته غرباً، على حساب المناطق البيزنطية المحاذية له. توفي السلطان السلجوقي علاء الدولة، وتفككت دولته؛ وكل أمير استقل بإمارته، ومن عارضهم أمير أسكي شهر، عثمان بن أرطغرل. ويعتبر عثمان هو مؤسس الدولة العثمانية وليس والده أرطغرل؛ لكون إمارته استقلت عن الدولة السلجوقية في عهده، وبدأ يدعى له في منابر الجمع، كولي أمر، وليس للسلطان السلجوقي، الذي انتهى؛ وكذلك هو أول من سك العملة باسمه.

انبهار الغز منذ استيطانهم منطقتهم المحاذية للحدود البيزنطية؛ بالبيزنطيين كان عظيما جداً، حيث كانوا بدائيين رحلا، استوطنوا وتاخموا دولة متحضرة ومتقدمة بمراحل ضوئية عنهم. وكونهم بدوا رحلا ومقاتلين أشاوس، استقروا حديثاً، لم يستطيعوا إدارة منطقتهم اقتصادياً؛ وعليه أداروها بما يملكون ويعرفون به أكثر من غيرهم، وهو الحرب والغزو والتوسع على حساب الدولة البيزنطية؛ والاستفادة من خيراتها وثرواتها؛ وعليه أعلنوا الجهاد عليها؛ وانضم إليهم الكثير من المقاتلين والفرسان، من جميع مناطق الأناضول؛ وحتى من بعض المناطق العربية الشمالية؛ من أجل أن ينالهم نصيب من ثروات وخيرات الغنائم التي تدر عليهم كل ما تقدموا شبراً في أوروبا.

وهكذا أصبح لدى الدولة العثمانية الفتية، جيش كبير وقوي، وشرس بنفس الوقت؛ وأصبح هو ليس فقط عماد قوتها، وإنما كذلك عماد اقتصادها. حيث تحول اقتصاد الدولة الفتية إلى اقتصاد عسكري، مما جعل منها، دولة محاربة من الطراز الأول؛ إذا توقفت عن الغزو شل اقتصادها وهددت خزينتها بالإفلاس. كانت الدولة العثمانية محاطة من الجنوب والشرق بدول فقيرة؛ لا تستحق التوسع على حسابها، وعليه أصبح توسعها على حساب حدودها الغربية؛ أي أوروبا، حيث الدول الغنية والمتحضرة صناعياً وعمرانياً. لدرجة، بعد فترة، أصبح غالبية شعبها من المسيحيين الأوروبيين؛ أي أصبحت دولة ذات أغلبية مسيحية يحكمها أقلية مسلمة. وهذا ما حدا بالدولة العثمانية، أن تفرض على كل عائلة أوروبية تابعة لها؛ ضريبة بشرية؛ وهو طفل من أطفالها تقدمه للدولة والتي بدورها، تنشئ الأطفال وتربيهم تربية عسكرية شرسة، بعد تحويلهم طبعاً للإسلام، وكونت منهم فرقها، الإنكشارية، والتي أصبحت أحد أعمدة الجيش العثماني.

إذًا أصبح لدى الدولة العثمانية؛ أو الأتراك بمعنى أكثر دقة؛ عقدة مع أوروبا، مبهورة بها وبمعطياتها الاقتصادية والعمرانية؛ وبنفس الوقت؛ حاولت فرض نفسها عليهم عن طريق القوة والإذلال. مما خلق عداوة دائمة ومتأصلة بين الأتراك وأرووبا؛ نشاهد بقاياها، ظاهرة للعيان حتى الآن؛ حيث أصبحت أوروبا عقدة تركيا، وأصبحت تركيا عقدة أوروبا. أوروبا تؤمن بقوة الجيش التركي، حيث هو من أذاقها الخوف والموت والرعب وهدد أمنها طوال قرون؛ ولذلك أوروبا، قبلت بأن تكون تركيا ضمن حلف الناتو، العسكري، ورفضتها بأن تكون عضوا ضمن الاتحاد الأوروبي.

في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، كونت دول غرب أوروبا حلفا مقدسا للتصدي للجيش العثماني الذي اكتسح دول شرق أوروبا، وأخذ يهدد روما؛ لإيقاف الجيش التركي عن تمدده داخل أوروبا. فوقف هذا الحلف الأوروبي المقدس، سداً منيعاً، ضد تمدد الجيش العثماني. الجيش العثماني وقف حائراً، وسط أوروبا، أثناء زحفه على غربها، بعد أن سيطر على شرقها. الجيوش تتحرك كما تتحرك المياه السائبة؛ عندما تجد ما يصدها؛ تبحث عن مكان طامن، وتتسرب منه؛ وتجعل منه مجراها الرئيسي. اقتصاد الدولة العثمانية كما ذكرت أعلاه، هو اقتصاد عسكري، يعتمد على الغزو والتمدد. ولذلك عندما توقف الجيش التركي عن تمدده؛ أخذت خزينة الدولة العثمانية تنضب، واضطرت قيادات الدولة العثمانية حينها؛ إلى أن تخطط لغزو المنطقة العربية؛ التي لم تكن تعيرها اهتماماً حينها، كونها فقيرة، كما يعتقدون.

ومن هنا، بدأ الغزو العثماني للمنطقة العربية، في بداية القرن الرابع عشر الميلادي؛ والتي كانت حينها، تحت إمرة الدولة المملوكية وعاصمتها القاهرة. ونجح الغزو، كون الجيش العثماني يمتلك مدافع وبنادق، أي أسلحة نارية، وكانت غريبة على الجيوش العربية حينها. بعد سنتين استطاعت الدولة العثمانية من ضم المشرق العربي ومصر للدولة العثمانية، وبعدها بفترة قليلة، مدت نفوذها للمغرب العربي. وهكذا بعد سيطرة الدولة العثمانية على العالم العربي، أصبحت تتمدد على ثلاث قارات، وأصبح البحر الأبيض المتوسط، شبه بحيرة عثمانية وضمت لشعبها شعبا مسلما كثيفا، عدل من خلل التركيبة السكانية لديها، حيث المسيحيون كانوا أكثر من المسلمين؛ هذا مع أنها تفاجأت بأن العالم العربي، لم يكن فقيراً جداً، كما كان قادة الدولة العثمانية يتصورون.

بعد سيطرة الدولة العثمانية على العالم العربي، أضافت قوى لقوتها؛ فتحركت جيوشها لتكتسح وسط أوروبا، وتقف عند أسوار مدينة فينا. كما أصبحت الدولة العثمانية فعلياً، دولة خلافة إسلامية؛ حيث سيطرت على الحرمين الشريفين، ومصر والمشرق العربي. ما نريد الوصول إليه، هو أن الدولة العثمانية، تحركت للعالم العربي، عندما وقف جيش التحالف الأوروبي، سداً منيعاً أمام جيشها. أي فالعالم العربي، هو بالنسبة لها، ثانوي مقارنة بأوروبا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، تعتبر الدولة العثمانية سيطرتها على العالم العربي، كنقطة انطلاق وقفز لأوروبا، وليس حبا بالعرب أو حرصا عليهم.

الآن، تمر تركيا والعالم العربي بنفس المرحلة؛ فعندما رفضت الدول الأوروبية، ضم تركيا، للاتحاد الأوروبي، بعد أن قدمت جميع التنازلات، ولم يشفع لها ذلك أن تكون دولة أوروبية؛ قررت التوجه وفرض نفوذها على العالم العربي؛ لتزيد من قوتها الاستراتيجية والاقتصادية، ومنه تقفز إلى أوروبا من العالم العربي، لتفرض نفسها على أوروبا، ويتم قبولها ضمن دول الاتحاد الأوروبي.

إذًا أوروبا شكلت عقدة نقص عند الأتراك، وبنفس الوقت تشكلت عند أوروبا عقدة يأس أمامها. وطبعاً، وبهذا النفس العثماني الجديد الحاكم في تركيا، سيكون العالم العربي، ضحية ثانية للدولة التركية؛ لتذبحه على مذبح عتبات المعبد الأوروبي؛ لدخولها لعقدتها القديمة الجديدة أوروبا.