في هذا العالم الكثير من الانتماءات الطبيعية التي يولد الإنسان منتميا إليها دون إرادة منه، ولا يعني ذلك بالضرورة أن يكون هذا الانتماء سلبيا أو مرفوضا، إنما هو انتماء تقليدي لا إرادي فحسب، غير أن الانتماءات الطبيعية "التقليدية" كالطائفة والقبيلة والأسرة تمثل الشكل الأول القديم للانتماء في الجماعات البشرية، والتمسك بها اليوم من قبل الأفراد ليس نتيجة لأنها الشكل الأنسب للانتماء؛ إنما لأنها توفر لأفرداها شعورا بالحماية والرعاية، إلا أنها في الوقت ذاته انتماءات منقوصة لأنها محدودة وضيقة، فهذا الشكل من الانتماء يتأثر سلبيا بتقوقع أفراد كل جماعة أو فئة على أنفسهم وثقافتهم واهتماماتهم، ولذا نجد انتشار الكثير من الكراهية والبغضاء والتنافس بين التكوينات الثقافية التقليدية تاريخيا؛ لذلك تمثّل هذه الانتماءات شكلا من أشكال الفراغ الاجتماعي لا يتأصل فيه الشعور بالولاء الأول للوطن في مجتمع مختلف ومتعدد.
فالفرد المنتمي لحدوده الضيقة لا يحقق مفهوم "المواطنة" من خلال المشاركة بأعمال تمسّ وطنه لا فئته الاجتماعية، وبالتالي لا يتحول المجتمع إلى مجتمع منتج، وهنا تتكون فجوة بين أفراد المجتمع من جانب، وبين المجتمع والوطن من جانب آخر، وما التسابق إلى مجد القبيلة والعشيرة والأسرة الممتدة والطائفة إلا شعور بالانتماء إلى كيان أكبر وأهم من الوطن؛ وهذا يعتبر قصورا في الانتماء للوطن يجب معالجته، لأنه يقلّص فرص المشاركة في بناء الوطن ويضعف روح التسامح والتعايش بين أفراد المجتمع.
وتعتبر "الدولة المدنية" اليوم هي الشكل الأنسب لاحتواء كل الانتماءات في وطن واحد، غير أن لها مقومات أولها الدستور، والتداول الديموقراطي السلمي، والحريات العامة، والمساواة التي تحفظ حقوق الأقليات والأغلبيات المجتمعية بالقدر نفسه، وكبح جماح سلبية التنوع والاختلاف من خلال الالتزام بقوانين واضحة، وهنا يكون الانتماء الأول في الدولة المدنية ليس لفئة أو طائفة بعينها، إنما هذا الانتماء يأتي تاليا بعد الانتماء ذي الأولوية وهو الوطن.
ويوحي تاريخ الدول المدنية في العالم اليوم إلى أنها عاشت قرونا من التجارب المريرة المختلفة التي أفضت إلى ما وصلت إليه، حيث تظهر "مدنيّة" المجتمع من خلال السلوكيات العامة القائمة على المبادئ العامة لحقوق الإنسان، أولها الحرية والعدالة والمساواة، كما تظهر المدنية أيضا من خلال الجوانب المادية وأنشطة المجتمع المختلفة، غير أن الاتجاه إلى تحقيق "المدنية" في الدول والمجتمع لا يخضع اليوم إلى تطور المجتمع ذاتيا، بل هو أيضا رهن التأثيرات الثقافية والسياسة والاقتصادية التي فرضتها الحضارة العالمية الموحدة المعروفة بـ"العولمة"؛ مما يجعل فرص بناء دول ومجتمعات مدنية احتمالا واردا، لكنه يحتاج إلى قناعة أولا وإلى تأسيس استراتيجي ثانيا من خلال إتاحة الفرص للمجتمع كي يأخذ بسبل التطور.
المجتمعات الغربية اليوم التي حققت مدنيتها على مستوى الدولة والمجتمع لم تولد وفي أفواه أفرادها ملاعق من ذهب، بل عاشت صراعات كبيرة ومريرة حتى وصلت إلى هذا الشكل من النظم السياسية والمجتمعية؛ ولذلك فإن نظام الدولة "المدنية" هو الشكل الأوحد الذي يقف من الأديان ومختلف التكوينات الثقافية المختلفة على مسافة واحدة، فالدول متعددة الأعراق والثقافات واللغات قد حققت لها هذه الاختلافات قوة سياسية واقتصادية وثقافية، من خلال اعتمادها على "الدولة المدنية" التي لا فرق فيها بين ثقافة وأخرى من ناحية الحقوق والواجبات.
وهذه القوة المكتسبة من مدنيّة الدولة أكسبت المجتمع الشكل المدني، من خلال الاعتماد على وجود انتماءات موازية، تتيح للفرد التحرك فيها ما بين أهم سلطتين في الانتماء، وهما الأسرة والدولة، على اعتبار أن الهدف الأول من تكوين روابط ومؤسسات "المجتمع المدني" هو تكوين مجتمع مترابط ومتماسك ومتعاون يعمل من أجل ذاته، وتحتضنه الدولة باعتبارها راعية لحقوق هذا المجتمع وحامية له ومنظمة لطبيعة العلاقات بين أفراده كي لا تتداخل أو تتضارب المصالح، حيث تتمكن من ضبط الاستقرار الاجتماعي من خلال التفويض الذي فوّضه إياها المجتمع عبر "العقد الاجتماعي"، حيث يتنازل الأفراد للدولة لتنوب عنهم في تنظيم العلاقة بينهم، وبذلك تتحول الحقوق والانتماءات الطبيعية إلى حقوق وانتماءات مدنية.
وهنا يبرز سبب الحاجة إلى وجود المجتمعات المدنية المتجاوزة للانتماءات التقليدية، حيث إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان -في مادته الخامسة والعشرين- ينصّ على حق مواطني الدول بالمشاركة في إدارة الشؤون العامة سواء مباشرة أو بواسطة ممثلين عنهم يختارونهم بحرية، ويمارس المواطن هذا الحق دون قيود غير معقولة.