عرضتُ في مقال سابق لكتاب ألفه الشيخ (السعودي الشيعي) حسين الراضي تتبَّع فيه الغلاةَ والرواة الكذابين والضعفاء الذين شوهوا المصادر الدينية الشيعية بما أدخلوه عليها من روايات تؤسس للنزاع بين السنة والشيعة (الوطن، ه21/10/1431.) وسأعرض هنا كتابا ثانيا ألفه الشيخ الراضي في هذا الاتجاه الذي سيكون له أثره الإيجابي في إزاحة بعض العقبات التاريخية من طريق التقارب بين أتباع المذهبين.
والكتاب هو "زيارة عاشوراء في الميزان: دراسة لزيارة عاشوراء سندا ومتنا وما طرأ عليها من تزويد وتحريف. بيروت: دار المحجة البيضاء، ط1، 1429هـ، 584 ص".
يذكر الشيخ الراضي (ص7) أن "مجموعة من الشباب" سألوه "عن صحة سند زيارة عاشوراء المتداولة"، فأجابهم باختصار بأنه "رواها ابن قولويه في (كتاب) كامل الزيارات بسند ضعيف، ورواها الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد مرسلة". ثم طور هذه الإجابة في مقال عن سندها نشره في موقعه على الإنترنت قوبل بردود فعل شديدة بين مؤيد ومعارض. ويشكو الشيخ الفاضل (ص ص 7- 8) من قسوة بعض ردود الفعل فيصفها بـ "الإرهاب الفكري" الذي يتهدد كل من يجرؤ على التعبير عن رأي يخالف المعهود. ويشير إلى أن هذا التطرف في ردود الفعل يخالف المعهود من "مدرسة أهل البيت".
وبما أن "زيارة عاشوراء" من المكونات العقدية الأساسية للمذهب، بل إنها تمثل "روح التشيع" (ص120)، وبما أن العقائد لا تثبت في المذهب إلا بالتواتر، فيجب أن تروى هذه الزيارة عن طريق التواتر، ولابد من التثبت، كما يقول المؤلف، من ورودها عن "المعصومين"، وإلا فلا حجية لها (ص36).
ويسعى المؤلف إلى إثبات أن نصَّ الزيارة تعرض عبر العصور للتحريف والزيادة. ومن أهم ما زيد فيه - كما يقول - "مقطع اللعن" التالي: "اللهم خص أول ظالم باللعن مني، وابدأ به أولا ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع..."(ص27). ويقول: إنه مهما أُوِّل هذا المقطع فإن واضعه أراد بالثلاثة الأُوَل الخلفاءَ الثلاثة (ص108). ويبيِّن (ص120) أن خطر هذا المقطع يأتي من أن "أبناء السنة" أخذوه "مستمسكا لهم ضد الشيعة والتحامل عليهم من أن الشيعة يسبون ويلعنون الخلفاء، وسببت العداوة والبغضاء والفتن والحروب الطائفية". كما أن من أخطار هذا التزوير تشويه المذهب نفسه وتشويه سمعة علمائه الكبار الذين رووا الزيارة، مثل الطوسي.
ويلخص رأيه في سند هذه الرواية المتداولة - حتى من غير "المقطع المزوَّر" - قائلا (ص ص 36ــ37): إنه "(لا يدخل) في الأسانيد المتواترة، أي (لا يدخل) في دائرة (مدرسة أهل البيت = السنة المتواترة)".
ويورد (الفصل الثاني، ص ص 39-54) آراء علماء الإمامية في شروط أسانيد الروايات التي يمكن أن تؤدي إلى اليقين، وهي شروط تخالفها أسانيدُ هذه الرواية. وفي الفصل الخامس (ص ص 63-81) يعرض للأسانيد التي جاءت بها تلك الزيارة، وهي أربعة أسانيد عن الإمام الباقر عليه السلام. ويتتبع سندين منها، ويلخص رأيه في السند الأول قائلا (ص 73) إن "هذا السند غير تام لأن الهمذاني (أحد رواة السند) ضعيف والطيالسي والحضرمي (راويان آخران في السند) مجهولان".
ثم يدرس السند الثاني الوارد في كتاب (كامل الزيارات) ويقول عنه: إنه "ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه" (ص 76). ويدرس بعد ذلك أسانيد أخرى للزيارة لينهي ملحوظاته عن أسانيدها بقوله: "فسند زيارة عاشوراء (ضعيف) بلا إشكال خصوصا على مسلك الوثاقة وبما أن خبر الضعيف غير حجة فالنتيجة أن زيارة عاشوراء هذه غير حجة فلا يمكن الاحتجاج بها لا في الفقه ولا في العقائد" (ص 81). كما يبين أن "شُهْرتَها" لا تعوِّض عن ثبوتها بسند صحيح.
وبعد هذه الدراسة النظرية المفصلة للتدليل على رأيه يورد في الباب الثاني (ص ص 93-125) نهي الأئمة (عليهم السلام) عن الكذب عليهم، ويشير إلى بعض الغلاة والوضّاعين الذين ارتكبوا جرائم التزوير عليهم.
ثم يبين أن نص هذه الزيارة كان يخلو من "مقطع اللعن" في ما بين القرنين الرابع والثامن الهجريين، مستشهدا بمصورات بعض مخطوطاتها (ص ص 109-119). ويخصص أطول أبواب الكتاب (ص ص 127-573) لدراسة مخطوطات هذه الزيارة، خاصة في كتاب "مصباح المتهجد الكبير" الذي أضيف إليه مقطع لعن الخلفاء الثلاثة بعد قرون من وفاة مؤلفه (ص 127).
ويخلص (ص573) إلى أنه "بعد هذه الرحلة الشاقة التي كانت بين أحضان المخطوطات المبعثرة وتقليب صفحاتها وقد كان عملنا فيها حول مقطع صغير من زيارة عاشوراء المتعارفة لا يتجاوز سطرين أو ثلاثة وكاتبه وواضعه لم يستغرق منه دقائق معدودة في وضعه.
"أما في سبيل كشف كذبه فاستغرق منا الوقت الطويل وكما ذكرنا لأكثر من ثلاث سنوات خرجنا من خلالها (بأن) التزوير والتحريف (طالا) كتبا كثيرة ومنها ما يتصل بالصراع المذهبي الذي استغل الدين لأغراض سياسية.
"فزيارة عاشوراء هي إحدى ضحايا هذا الصراع فوقع فيها هذا التزوير الفظيع الذي دفع شيعة أهل البيت له ثمنا باهظا".
والنتيجة المتوقعة لهذا الجهد العلمي الفائق أن ينتهي المؤلف الفاضل إلى القول بعدم ثبوت نص الزيارة كلها، لا النص القصير فقط الذي أثبت أنه زيد فيها. لكن المفاجيء أنه يختم الكتاب بإيراد نص الزيارة (ص ص 543-547) كما ورد في كتاب "كامل الزيارات" لابن قولويه (ت368هـ)، ويصفه بالثقة، ويوحي بقبول ذلك النص (ص 548).
وكان المتوقع ألا يوثِّق المؤلفُ نصَّ الزيارة بإطلاق لسببين:
1- تضعيفه لسند رواته (ص 72).
2- أن النص الذي وثَّقه وأوحى بقبوله له يتضمن ثلاثة مقاطع من اللعن، لا مقطعا واحدا. وليس غريبا، إذن، أن يزوَّر المقطع الذي درسه الشيخ الراضي لأن ألفاظ تلك المقاطع الثلاثة تكاد تتطابق مع ألفاظ المقطع "المزوَّر". ومن الواضح أنه لا يمكن فهْم تلك المقاطع إلا على أنها لعن للخليفة الأول ومن تبعه إلى يوم القيامة، وهو ما يشمل الخليفة الثاني والثالث بالضرورة، ولعنٌ للأمة كلها واتهامها بقتل الحسين رضي الله عنه ورضاها بذلك. ويشتمل أحد المقاطع على لعن "بني أمية قاطبة"، مع أن منهم الخليفة الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه، وغيره من الصحابة، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي يقدِّره كثير من الشيعة.
إن من العسير أن يتصور أحد صدور هذه اللغة عن أحد من الأئمة الأكرمين الذين تشهد الروايات الصحيحة عنهم بأرفع ما يكون من التعبير وأبعده عن فاحش القول.
ويجب القول أخيرا: إن هذه الزيارة، بالإضافة إلى ضعف سندها عن الإمام الباقر عليه السلام، لا تتوافق مع فتوى السيد خامنئي الأخيرة التي حرِّم فيها "النيل من رموز إخوتنا من أهل السنة"، خاصة أن "اللعن" فيها لا يستثني أحدا منهم طوال العصور.