في كل مرة تظهر تطورات أو حوادث أو متغيرات ما في بقاع أرضنا العربية، نتحاشى على نحو ما الاعتراف بأصلها وأسبابها ودوافعها، ونتحرّج أحيانا حتى من الإشارة برأس السبابة إلى ذلك الكامن خلفها، ونظل ندور في حلقة مفرغة من المصطلحات، ربما نعلم أنها مفرغة.!
ومن ذلك ما يتعلق بمصطلحات كثيرة لها إشكالاتها، منها ما هو اجتماعي كالتحرش، ومنها ما هو فكري وسياسي كالإرهاب، هذه المصطلحات الفضفاضة المتسعة، التي لم نتمكن من تجاوز مأزق تعريفها إلى ما هو أدق.
أو تعريف حالات الاضطراب والمشاكل الداخلية في البلدان العربية والعالمية، سياسيا وفكريا وثقافيا واجتماعيا، وظهور الجماعات الأيديولوجية المختلفة، والتي حمل بعضها السلاح إضافة إلى الفكر المرتبك وقضاياه الاجتماعية المعقدة. ونراوغ مشكلاتنا بغرابة متناهية، دون أن نتمكن من استيعاب ماهية المشكلة، لنتمكن من البدء في حلها على الأقل.
وتمنعنا مواقفنا السلبية هذه من تسمية الأشياء بأسمائها، مستعيضين بإطلاق توصيفات تحمل معاني عدة واحتمالات تأويلية لشيء واحد، لتمرير مخططات أو أفكار ما، وعليه ذهبنا إلى فكرة اللعب على تبديل المصطلحات، تحت تبريرات اقتنعنا بها في حينها ذات ظروف، وبدأنا في تهيئة الشارع للتعامل معها، من خلال نشر مصطلحات موازية على مستوى المعاملات اليومية، كقولنا على الصعيد الاجتماعي مثلا ذوي الاحتياجات الخاصة بدلا من مصطلح المعاقين، والتأجير المنتهي بالتمليك بدلا من التقسيط، والقروض الإسلامية الميسرة بدلا من القروض البنكية، وهذه الجمل التعويضية بالمناسبة، مصطلحات ليست أكثر وضوحا، بقدر ما هي مطاطية ومناورة، وأكثر عددا في الكلمات والحروف، حتى في المدة الزمنية التي تستغرقها لفظيا.
المعروف أن إيصال المعنى والاختصار من أسس عبقرية اللغة، فكيف أصبح التمييع والتمطيط اللغوي مقبولا وصفيا كعبقرية لغوية؟
الأمر ببساطة يتعلق بحالة استدراج العواطف الإنسانية، واللعب عليها قدر المستطاع، لتمرير انتهازية قذرة في الغالب حينما يتعلق الأمر بالسياسة والحروب ومشاريع الأدلجة والجشع التجاري.
هذا التمييع للأشياء والحوادث من خلال التلاعب بمسمياتها، هو من وجهة نظري أحد أهم مراحل تخدير المجتمعات، وتعويدها على الهروب من مواجهة مشكلاتها على أرض الواقع، ومرحلة إعداد فقدان هوية اجتماعية، وإحلال قيمة على حساب قيمة أخرى، قد لا تكون أفضل.
قرأت كثيرا من المقالات والتغريدات والكتابات، وأتابع وسائل إعلامنا العربي التي تبث ما لا يُحصى من المصطلحات الجديدة، ووجدت أكثرها قد وقع في خدعة التلاعب بالمسميات والمصطلحات ونشرها، دون التمعن في أصلها ومقاصدها!.
الواقع أن استخدام مثل هذه البدائل الدلالية اللغوية يسلب الحياة الاجتماعية جزءا مهما من حيويتها وديناميكيتها، ويوصلها إلى مرحلة اللا توازن واللا فهم، لتبدأ قصة المجتمع المرتبك والخائف، الذي لا يقوى على مواجهة المتغيرات الطارئة على ثقافته، ويرعبه الظل.
فكيف إذا ما تعلق الأمر بالشؤون السياسية ولغتها، ومحاولات تسويق فكر سياسي في أوساط دول الشرق الأوسط على سبيل المثال، باستبدال مصطلحات المقاومة والثورة بمصطلح أعمال عنف، والصلح تسوية سياسية، والتقسيم أصبح الشرق الأوسط الجديد، والاعتراف تطبيعا..!!
من هنا ندرك أن ما يتم تسويقه على هذا الصعيد، هو في واقعه مصطلحات بديلة حمالة أوجه، تستطيع على ضوئها الوصول إلى مرحلة خلخلة المجتمعات وزعزعتها، وصناعة المواقف السياسية المترددة الضعيفة للدول، وتضع الحكومات في حرج كبير مع شعوبها في نهاية المطاف.
وهذا نموذج ووجه آخر للحرب الباردة غير المعلنة طويلة الأجل، وتأثيرها القاتل على ثقافات ووعي الأمم.
فمن طالبان إلى القاعدة إلى داعش إلى بوكو حرام في الضفة السنية، وحزب الله وكتائب أبو الفضل العباس إلى الحوثيين... إلخ، على الضفة الأخرى الشيعية، ما زلنا كدول شرق أوسطية نقف خارج دائرة المصارحة، مفضلين على ذلك اختيار لغة مصطلحات خطابية تُجيد الالتفاف على صلب الموضوع والمشكلة، وتؤخر أو تُعقد الحلول، وكان يجب أن نراقب هذا التسلسل بإمعان، لنقرأ الصورة وما بين السطور، ونبلور بالمقابل خطابنا ومصطلحاتنا بما يوازي حجم قضايانا.