من لم يتوقع حدوث مجزرة القديح وقبلها مجزرة الدالوة وبعدها مجزرة الدمام؛ فليبحث له عن عقل يعينه على قراءة ما تخبئه له الأيام من أحداث وأهوال. والمسألة ليست بتلك الصعوبة أو التعقيد، فكما قيل ويقال، التاريخ يعيد نفسه، أي يكرر ما يحدث فيه من أحداث، تكون ملازمة لحياة البشر. الأحداث التي تتكرر في حياة البشر، كأفعال وردات أفعال، جراء تصرفاتهم، أو تصرفات بعضهم، تظهر للعيان وتصبح جلية للعقل، وعليه تسمى ظاهرة إنسانية، أي فعل إنساني ظاهر ومتكرر.

ومن هنا، يسهل لذوي العقول الفاعلة والمتفاعلة والسائلة والمتسائلة فهم ما يدور حولهم وفي محيطهم، القريب منهم والبعيد، وحتى القديم عنهم زمنيا، من خلال فهم الظواهر الإنسانية ورصدها، وعليه توقع ما سيحدث لهم من أحداث إيجابية كانت أم حتى كارثية. وعلى هذا الأساس يقومون بتلافي تكرار وقوع الظواهر الكوارثية التي ستحل بهم، عن طريق منع أسبابها، والتصدي لها، قبل أن تنتقل من علامات حدوث ظاهرة إلى وقائع حدوث ظاهرة تفرض نفسها على الأرض؛ وتجر إلى ما هو أكثر كارثية منها. وذلك من خلال رصد الظاهرة الإنسانية وتتبعها وتحديد أسبابها وتوقع نتائجها؛ والبحث عن طرق علاجها.

ومن أبشع الظواهر الكارثية التي مرت على البشر وما زالت تمر عليهم وتتكرر، هي جزر الإنسان للإنسان؛ لمحاولة التخلص منه، عن طريق الإبادة الجماعية، بسبب عرق أو دين أو مذهب؛ والتي لا تدان في عصور التوحش؛ وتدان ويطالب بوقفها ومعاقبة من يقوم بها، والتحرز من عدم وقوعها وتكرارها، في عصور الرقي والتحضر. القتل الجماعي لفئة بشرية معينة في مجتمع ما؛ بسبب عرق أو دين أو مذهب، تكرر عبر التاريخ ومارسه الإنسان بأبشع صوره، في عصور وحالات توحشه؛ وأدانها في عصور رقيه وتحضره؛ ووضع الاحترازات والمصدات الإنسانية الفاعلة، لعدم تكررها بين البشر؛ أي للقضاء على ظاهرة التوحش، من جذورها، بين البشر؛ قبل وقوعها.

ظاهرة الجزر البشري للبشر رافقت البشرية منذ وجودها، وعليه؛ كظاهرة بشرية متوحشة، تم رصدها ومتابعتها تاريخيا، ودراستها وعليه فهمها. حيث وجد أن الجزر الذي يحدث لفئة أو أقلية من البشر بسبب عرقها أو دينها أو مذهبها؛ لا تتم بين ليلة وضحاها؛ ولكن تسبقها مقدمات؛ تمهد لها وتسوغ لها؛ لمحاولة جعلها مقبولة أو مبررة لأكبر عدد من الفئة التي ترتكب المجزرة باسمها. وقد وجد علماء رصد الظواهر الاجتماعية؛ أن أول ما يبدأ التخطيط لجزر فئة اجتماعية ما، من أجل عملية تطهير عرقي وإبادة؛ تبدأ بفك الارتباط الوجداني، بين غالبية من ترتكب المجزرة باسمهم، والفئة المخطط لجزرها. وبداية هذه الحملة تكون بإثبات بأن الفئة المراد جزرها؛ هي لا تنتمي لا حاضرا ولا ماضيا ولا حتى مستقبلا؛ للفئة التي توجد معها. وإن وجود الفئة المراد تطهير المجتمع منها؛ يبدأ بتهمة كونها عدوة للغالبية من المجتمع ومتآمرة عليه، مع أعداء الداخل والخارج. أي هي في الأول والأخير، تمثل خطرا محدقا على المجتمع يجب أن يتم أولا، نبذه وحصره في الزاوية، تمهيدا لجزره والتخلص منه ولو بأبشع الصور وأقل المبررات.

طبعا كل هذا تسبقه حملة تطهير مكثفة ومتواصلة، معنوية وتشكيك بالهوية؛ تؤدي إلى معادلة "الفسطاطين" هم ونحن؛ حتى ولو كانوا من العرق نفسه ولكن الدين يختلف؛ أو من الدين نفسه والعرق يختلف؛ أم من العرق والدين نفسهما ولكن المذهب يختلف؛ ناهيك عن اللون المختلف. الحملة تكون قوية ومكثفة ومدعومة بأكاذيب ونسج أساطير خيالية وخرافات، لا يتقبلها العقل؛ تتحول مع الوقت والإصرار على ترديدها، عند الأغلبية، إلا حقائق، يمنع التشكيك بها، خاصة إذا ربطت بالدين والتاريخ. يقول وزير الدعاية والإعلام، والحرب النفسية، للحزب النازي الألماني، في عهد هتلر، جوزيف قوبلز؛ أكذب ثم أكذب ثم أكذب، يصدقك الناس.

المسألة ببساطة هي رمي الطين على الجدار، عل جله أو بعضه يلصق؛ وإذا لصق جله أو بعضه يكون الجدار قد تشوه؛ ولو كان مبنيا من ذهب؛ لأنك لا تشاهد إلا طينا عالقا لا ذهبا. يأتيك أحد ضحايا الحملات التحريضية المركزة والمستمرة، ويقول لك وبتشدق؛ بأن هذه الفئة تستهدفنا وتقاتلنا منذ فجر التاريخ. وعندما تسأله بأن يذكر لك اسم معركة واحدة؛ يبهت ويتلعثم ويصمت. حيث لا يوجد أي معركة مسجلة في التاريخ، بين فئته وتلك الفئة المستهدفة. بل تجد أن جميع المعارك التي يعج بها تاريخه الدموي قد حدثت بين فئات من فئته لا غير.

وتأتي آخر مرحلة من مراحل التعبئة التحريضية وهي مرحلة ما قبل الجزر، أو التطهير العرقي. وهي نزع الصفة الإنسانية عن الفئة المراد تصفيتها؛ واستبدالها بمثل المتوحشين أو البرابرة أو الخونة أو المخربين؛ أو حتى الفأر والجرذان والخنازير. وذلك حتى عندما تبدأ عملية التطهير العرقي عن طريق القتل والجزر الجماعي؛ لا يشعر بمن يقوم بهذا الفعل الشنيع؛ بأنه يقوم بقتل بشر وإنما يقوم بقتل متوحشين أو خونة أو جرذان وما شابه ذلك. وكذلك تتقبل الغالبية، التي يتم الجزر والتطهير العرقي، باسمها، مثل هذا الفعل بدون تأنيب ضمير؛ بل بمباركة ولو كانت مباركة خفية؛ أو ذرف دموع التماسيح.

عندما وصل الأوروبي للقارة الأميركية كان يوجد هنالك أكثر من خمسة وثلاثين مليونا من السكان الأصليين، الهنود الحمر؛ وقبل نهاية القرن التاسع عشر، لم يبق منهم إلا حوالي ثلاثة ملايين. وتم التطهير العرقي للسكان الأصليين في أميركا، من دون أدنى ذرة تأنيب ضمير من القادمين البيض للقارة الأميركية. وحدث ذلك بعد إطلاق حملة دعائية تشويهية للهنود الحمر، في آخر الحملة أسموهم بالبرابرة والمتوحشين الذين يقفون أمام إرادة الله، في نشر الحضارة المسيحية في القارة الجديدة. وكان الجيش الأميركي يحاصر مخيمات الهنود، ثم يدكها بالمدفعية على كل من فيها، ليس فقط من رجال محاربين؛ ولكن حتى من نساء وأطفال؛ وكأنه يطهر المنطقة من عقارب أو ثعابين؛ لا فرق عنده بين ذكرها وأنثاها ولا بين كبيرها ولا صغيرها.

إن ما حدث في القديح وقبلها الدالوة وبعدهما الدمام؛ هي ليست نتاج اليوم أو الأمس؛ بل هي نتاج حملة تعبوية تحريضية؛ طويلة ومكثفة شنت ضد أهلنا الشيعة من التشكيك بدينهم والطعن بوطنيتهم وحتى إنسانيتهم. إن ما تبقى من لحمة اجتماعية ووطنية وإنسانية في مجتمعنا قد تصدت لنتائج الحملات المغرضة والمفزعة وما زالت صامد تتصدى لها بكل وطنية وعنفوان.

إن تحذير خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، حفظه الله، قوي اللهجة ضد كل من يتعاطف مع القتلة المجرمين ويعبث باللحمة الاجتماعية وسينزل به عقاب شديد. وكذلك تصريحات صاحب السمو الملكي، ولي العهد ووزير الداخلية التي تهدد وتتوعد كل عابث بأمننا وبوحدتنا الوطنية بالضرب على هامته بقبضة من حديد؛ لا تتهاون بمثل هذا الشأن الخطير. الآن الكرة أصبحت في ملعب مجلس الشورى الذي ننتظر منه صدور قانون تجريمي واضح ورادع وشامل ضد كل عابث ومستهتر بأمننا وبلحمتنا الوطنية؛ فمتى هم فاعلون؟