كان ما حدث في الدمام جرحا آخر غائرا في قلب كل إنسان سويّ، يعرف للإنسانية كرامتها، وللدم المعصوم حرمته، لم تجف بعد الدموع من ألم مصاب المواطنين في القديح، ليعاجلهم هذا المصاب الجديد في الدمام.
وبغض النظر عمن فعل هذه العملية ونفذها، سواء أكان تنظيم داعش المجرم، أو كانت إيران، أو كان حتى المخلوقات الفضائية من المريّخ؛ بغض النظر عن العدوّ الذي قام بهذه العملية الدنيئة؛ فإن هذه الجرائم إنما ارتكبت على "أسس طائفية"، أي أن من فكّر فيها وخطط لها ونفذها، إنما أراد إشعال الفتنة بين المواطنين، واستغلالها لتحقيق مأربه؛ فليس الشيعة هم المستهدفون، ولكن المستهدف هو المملكة العربية السعودية، والشعب السعودي كله، وعلى كل عاقل أن يفهم هذا جيدا، وأن يتعامل مع هذا الحدث على هذا الأساس.
وإذا كان هذا الحدث الأثيم مبنيا على الطائفية واستغلالها؛ فإنه لا يخفى على كل ذي عينين وأذنين، أن هناك خطابا طائفيا موجودا، لا يحتاج إثباته إلى برهان، يمارسه بعض المشار إليهم بالبنان من الشيعة ومن السنة معا، على القنوات الفضائية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
إبقاء حالة الطائفية بهذه الطريقة، وإبقاء تلك الأفواه التي تقذف بنيرانها مستمرة في تأجيج نار الفتنة، سيحافظ على الذريعة التي يتذرع بها كل من يريد السوء والتخريب.
إن قلع الخطاب الطائفي من جذوره، وإن تجريم الطائفية وخطاب الكراهية ضرورة ملحة، والآن الآن وليس غدا، لقطع تلك الذريعة التي يستعملها الأعداء والمغرضون لدق إسفين التفرقة بين أبناء البلد الواحد.
إنه لا مجال للمجاملات الآن، فالمعركة معركة وجود، فإما الانتماء إلى الوطن الواحد وتقديمه وتقديم مصلحته على الطائفة، أو الانتماء إلى الطائفة وتقديم مصلحتها على الوطن، وبهذا -لا قدّر الله- يحل الخراب، كما حل في بعض الدول المجاورة.
ليست الطائفية هي النقاش العلمي بالتي هي أحسن وبالأدلة والبرهان بلا جرح للمشاعر، وبلا نيل من الرموز المحترمة في كل طائفة، ولكن الطائفية هي التعصب للطائفة ولو على حساب الوطن، وتقديم مصلحتها على مصلحة الوطن، والانتماء الحامل على البغي والعدوان والعنف اللفظي أو السلوكي مع الآخرين.
ليس المطلوب من الشيعي أن يكون سنّيا، ولا المطلوب من السني أن يكون شيعيا، والمتحولون من طائفة إلى أخرى ما هم إلا أفراد قلائل محدودون جدا، والطوائف موجودة في هذه المنطقة منذ مئات السنين، كانت موجودة وستبقى. والوطن هو الوعاء الجامع لكل أبنائه من جميع الطوائف، وجميع أبناء الوطن هم شركاء فيه، ما يمس فردا منهم -أيا كانت طائفته- فهو يمس الجميع، وعلى الجميع أن يفهم هذا جيدا، وأن يعيه كل الوعي.
مما يميز الطائفي أنه لا يدرك مصلحة وطنه، بل ربما لا يفكر فيها أصلا، فهمّه الأكبر محاربة الطوائف الأخرى؛ ممن توارثوا عقائدهم جيلا فجيلا، ولن يحيدوا عنها -في الغالب- مهما تطاولت السنين، بينما يستطيع أن يبين ما يراه الحق في المسائل المبحوثة بذاتها دون التعرض للآخرين بشتم وإقذاع وتهييج للناس.
كل من يرى ما يحدث في العراق وسورية من خوض في الوحل الطائفي، وإباحة الدماء والمجازر وانتهاك الأعراض وارتكاب أبشع الجرائم التي لا تخطر على بال بشر بناء على الانتماء للطائفة، كل من يرى ذلك ثم هو مستمر في التهييج والتحريش ونشر الأحقاد والكراهية؛ فهو أعمى بصيرة، وهو لا يريد بوطنه خيرا.
إن الخطاب الطائفي خطاب انفصالي بالضرورة، وإن كل طائفي هو انفصالي بالضرورة من حيث يقصد أو لا يقصد، علم بهذا أم لم يعلم، أدرك هذا أم لم يدرك، اعترف بهذا أم لم يعترف. وإذا كان الطائفي المستمر في خطابه التهييجي يرى أن الطائفة التي تخالفه كافرة أو مرتدة، فنحن نطالبه بالحل، ما الحل المقترح؟
استتابة المخالفين وقتلهم؟ أو طردهم من ديارهم وتشريدهم؟ أو انفصالهم بدولة مستقلة؟! ما الحل الذي يقترحه الطائفي؟
إن كل هذه الحلول هي في حقيقتها مشكلات وليست حلولا؛ إلا إذا فهم الطائفي من قوله تعالى: "والفتنة أشد من القتل" أن الفتنة المقصودة هي الشرك، ومن هنا فليسِل الدم إلى الركب بغض النظر عن أي شيء آخر، وكأن تأويل الفتنة في هذه الآية هو القول الوحيد للسلف الصالح ليجعله هو التفسير الأوحد، مع أن من المفسرين من فسرها بأنها "الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يؤدي إلى الشرك"، أي اضطهاد المؤمنين وتعذيبهم الذي كان يقوم به كفار قريش في مكة ليردوا المؤمنين عن دينهم، وهذا هو أصل معنى الفتنة أصلا.
إنه لا حل البتّة إذن إلا أن يكون الجميع مواطنين شركاء في الوطن، متساوون جميعا أمام القانون.
أمر آخر شديد الأهمية؛ إن هناك آراء "بشرية اجتهادية"؛ فيما يخص الاستنباط والتأويل من جهة، وفيما يخص إنزال النصوص على الأعيان والوقائع من جهة أخرى، تلك الآراء محرجة جدا، ولوازمها خطيرة جدا، وهي موجودة لدى السنة والشيعة على السواء، ومن أعظم الواجبات اليوم مراجعتها وإعادة النظر فيها؛ فالاجتهاد البشري يتسع لمخالفتها، مع مراعاة المصالح والمفاسد والحال والمآل.
إن محاربة الطائفية مسؤولية الجميع، والوقوف في وجه الطائفية اليوم مسؤولية الجميع، فهي قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ويمكن أن تتسرب سمومها من أي ثغرة، ولا بد من إزالتها جذريا ببرنامج عمل، وسن قوانين تجرمها وتجرم القائلين بها.
ولا خوف على التوحيد والحق لو صدر قانون يجرّم خطاب الكراهية والتفرقة والأخذ على أيدي من يروّجه؛ فما أحدٌ مطالب بألا يجهر بالتوحيد ويبين مسائله كما هي، دون تهييج وجرح وتجييش.
إن عامة الناس من سنة وشيعة لا يفكرون في التشيع والتسنن، بل يفكرون في تأمين حياة عيالهم والاطمئنان على مستقبلهم، يفكرون في لقمة العيش، والأمن والأمان والحياة الكريمة.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه "ما أكثر العبرة، وما أقل الاعتبار"، هذه هي أشجار الطائفية القميئة يجني ثمراتها المُرة الأبرياء بالآلاف المؤلفة حولنا، قتلا وتعذيبا وتشريدا، والحرب أولُها كلام، والفرصة سانحة -ما دام خطاب الكراهية يتصاعد- لمن أراد أن يخرب، وما كان أحد أولئك يفكّر أنه سيصاب بهذا يوما من الأيام، ولكنه جرى ويجري الآن كل يوم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.