سيكون هذا المقال، خطاب الوداع الأخير ولن أكتب بعده حرفا عن سدنة التفجير وأباطرة القتل على أبواب المساجد. هؤلاء القتلة لن يجبروني بعد اليوم على أن أكون كاتب مناسبات للتأبين والشجب ولن أسمح لهم أن يسحبوني إلى ذلك المربع البغيض كي يتلذذوا بأن أفعالهم السوداء قد أصبحت اليوم عناوين مقالات الكتاب و"مانشيت" الصفحة الأولى للصحيفة. لن نسمح لهم بعد اليوم أن تكون القنبلة الغادرة رأس نشرة الأخبار في أكبر وطن مستورد للرافعات الصفراء التي ترتفع في قلب كل مدينة وفي بلد عظيم يصرف في العام الواحد تريليوني ريال في مسيرة التنمية ما بين القطاعين العام والخاص. أنا من اليوم لن أنساق وراء هؤلاء القتلة الذين يفرحون بأن وطني تحول إلى مجرد نشرة إخبارية لآثار حزام ناسف أو شظايا قنبلة.

ماذا سأقول اليوم في خطاب الوداع الأخير لمقالات من هذا النوع والصنف؟ سأقول ابتداء إن وطني بحاجة إلى ثورتي خطاب وتعليم في وجه صوت الحزام الناسف والقنبلة. تعالوا أولا لثورة الخطاب: نحن كلنا، وبلا استثناء، شركاء في هذا الجرم الأخلاقي الذي حول الذهاب إلى صلاة الجمعة مغامرة وقمار على العودة حيا أو ميتا. الكاتب المؤتمن على مسؤولية الكلمة ولكنه "يأخذ بطرف". أستاذ المدرسة والجامعة من كل أولئك الذين حولوا فصولنا وقاعاتنا إلى قنابل صوتية للتصنيف والكراهية على الأمل أن يخرج من بين هذه الفصول والقاعات بضع قنابل جسدية. خطيب المنبر الذي يدين في الخطبة الأولى هذا الفعل الإجرامي ليحصل على راتبه الرسمي من إدارة الأوقاف، لكنه بالرمزية يدعونا في الخطبة الثانية إلى أن نترحم على كل "جهادي" قاتل. شيخ القبيلة ونائب القرية وكبير الأسرة الذي يقيم تلك الولائم الباذخة إكراما لكل إرهابي يخرج من السجن بعد انتهاء العقوبة وكأن هذا القاتل عائد إلى قبيلته وأهله من اليرموك أو القادسية. كلنا، وبلا استثناء شركاء في هذه الجريمة التي تحول القاتل إلى بطل شهيد والضحية إلى مجرد قبر وكفن.

تعالوا ثانيا لثورة التعليم: نحن اليوم لم نعد بحاجة إلى مشاريع الأنفاق والكباري بقدر حاجتنا إلى تعليم ينقذ ملايين الأطفال من أورام الكراهية. نحن اليوم بحاجة إلى إنقاذ مجتمع ووحدة وطن حتى لو كان الثمن إقالة مئة ألف أستاذ بخطابات وداع وشكر، وإحلال مئة ألف عقل جديد نظيف كي لا نقرأ في وطني وبلدي، من بعد اليوم جملة واحدة لأم شهيد تواسي وتعزي أم القاتل. نحن اليوم في أمس الحاجة إلى أن يفهم كل مواطن، كل مدرس، وكل كاتب وداعية أن جمعة "القديح" لم تكن يتيمة بدليل جمعة "العنود"، وأن جمعة "العنود" قد تضرب في "طوال" "جازان" أو "تيماء" الشمال أو رابغ "الغرب" أو "رماح" القلب الغالي من خريطة هذا الوطن. وخلاصة القول بكل صراحة ومكاشفة: الحلول الأمنية وحدها تكافح ولكنها لا تكفي من دون ثورة مدنية أخلاقية في قلب الخطاب والتعليم، عفوا... انتهت المساحة ولم تكتمل الفكرة.