واجهت بسبب مقالتي السابقة حول نقد الخطاب الديني وغربلة وتدقيق كتب التراث، سيلا من السب والشتائم يتلو بعضها بعضا، وهذا للأسف ما اعتاد عليه البعض في مجتمعنا من خلط الجدل الفكري بالشتيمة الشخصية، وهذه ظاهرة يجب أن نقف عندها قليلا!

يقول أحد علماء الاجتماع إن هناك فئة من الناس "تسيطر العاطفة على نظرتها في الأمور سيطرة كبيرة، فإذا أحبوا شيئا ظنوا أن الدنيا كلها منهمكة في حبه والإعجاب، وهم يتغنون بمدحه من غير حياء، ويمتعضون حين يرون الناس لا يؤيدونهم في هذا الغرام والهيام"! وعلى هذا الأساس، فإن البعض للأسف ينظر إلى شخص الكاتب قبل أن ينظر إلى فكره وإلى ما كتب!.. وعلى هذا الأساس يتهمني البعض بإثارة الفتنة والانتقاص من قدر علماء الدين، والتشكيك في عقيدة المسلمين، إضافة إلى فتح المجال لتصفية الحسابات مع بعض رجال الدين، والجهل بأمور الشريعة والعقيدة الصحيحة، وعلى هذا المنوال، ناهيك عن السب والشتائم والكلمات البذيئة.

لقد ذكرت في أكثر من مقالة أن من ضمن المباني الفكرية للإرهاب: الاعتقاد بأن الحقيقة واحدة مطلقة من خلال التركيز على التفسير الخاطئ لحديث "الفرقة الناجية"، فإذا اعتقد الإنسان أنه يملك كل الحقيقة وأن عقائده تتطابق مع الحقيقة وبالتالي فإن عقائد الآخرين باطلة وهم كفار مشركون بالله، وفي هذا الصدد يقول البرفيسور شيلر في كتابه (المنطق الصوري): "إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة، والآراء يجب أن تكون متفقة، فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها، فإذا كنت ضدها فأنت هالك، أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرؤ على مناقضتك".

ولهذا ينظر البعض من جميع المذاهب الإسلامية إلى الخطاب الديني وإلى آراء العلماء على أنها حقائق مطلقة بل ومقدسة فهي تمثل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن يجرؤ على نقد هذا الخطاب أو هذه الآراء، فهو إما منافق أو كافر بدين الله، ليس هذا وحسب، بل يجب القتال من أجل هذه الآراء وهذه العقائد وذلك من باب الجهاد في سبيل الله، مما قد ينتج عن ذلك المعارك الدامية وقتل الأبرياء من الناس، وانتشار الإرهاب في المجتمع.

قال لي أحد المعترضين: "كيف تجرؤ على نقد العلماء العظام، وأنت غير مختص في علوم الشريعة والدين؟"! ثم جاء بمثال ساخرا مني على ذلك وقال "على منهجك.. سوف أدرس الطب بنفسي، وأنتقد عمل الأطباء، ولا أحتاج أن أذهب أنا وأبنائي إلى المستشفيات، وإنما أعالجهم بنفسي"! وهو يقصد بهذا القول إن الدين علم واختصاص وله جامعات وكليات، مثل الطب والهندسة، وبالتالي لا يمكن انتقادهم من غير مختص مثلهم.

وأقول هنا إن مثل هذا الكلام يبقى في إطار اللفظ والكلمات ولا يقوم على قاعدة متماسكة رصينة، فكما قلت آنفاً فإن النظر إلى آراء رجال الدين والدعاة هي نظرة قداسة وحقيقة مطلقة لا يمكن نقدها، وعليه أستطيع القول: لن تكون المعرفة الدينية علما ولا فرق بينها وبين العلوم الأخرى إلا إذا خضعت للتحقيق والنقد والمناقشة.

فمن أهم شروط الاتحاد مع العلم بالنسبة للمعرفة الدينية أن تكون الآراء والنظريات أفكارا وعلوما بشرية قابلة للنقد على مستوى واحد مع العلوم الأخرى، فالفقهاء ورجال الدين هم من البشر وغير معصومين، وآراؤهم منتوجات فكرية غير مقدسة، فلم يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الفقهاء، وما تتمتع به النصوص القرآنية من القداسة لا يسري ذرة إلى علوم هؤلاء ومعارفهم.

الإشكالية أن البعض ينظر إلى الخطاب الديني بأنه المنهج المقدس وغير البشري الذي يهدي الناس، فيتم استخدام آليات الإثارة للعواطف والقصص البطولية التاريخية والأحلام والجن وأمثال ذلك، ولهذا نرى بعض رجال الدين والدعاة يهتفون بالأفكار المطلقة ويتخذونها سلاحا للدفاع عن مذهبهم وللهجوم على الآخرين، فتظن كل طائفة أنها الفرقة الناجية وأن الجنة لها وحدها، ويتظاهر البعض بالإصلاح والتنديد بالأعمال الإرهابية وفي الوقت ذاته يوجه سهام نقده إلى المذاهب الأخرى ويصف عقيدتها بالكفر والشرك، فيرد عليه الفقيه في المذهب الأخر بالمثل أو أشد، فتثار الأحقاد والكراهية بين اتباع الفقهاء، فينتشر الإرهاب في المجتمعات.

وبناء على ما سبق، فقد تم تحويل الدين إلى أيديولوجيا، لا تتحمل التنوع في الأفكار والتعددية في التوجهات، وتكتسب صفة القداسة، وتدعي الكمال والشمولية والاستغناء عن الآخرين، وتطلب الأتباع، وتفرض نفسها على الآخرين، وتصنع الأعداء وتنتج النفور والكراهية والإرهاب.

فإذا كان البعض يرى أن الخطاب الديني علما، فلابد أن يكون هناك نقد ونقاش وغربلة وانفتاح على سائر المذاهب وأنواع العقائد والأفكار الأخرى، حتى يتجدد بصورة مستمرة كما هو الحال في قضايا العلم، فمن طبيعة العلوم التطور والتجديد، وعلى العلماء في جميع المذاهب الإسلامية التحرّك نحو إيجاد صيغ جديدة من الخطاب الديني وطرحها على مائدة البحث والنقاش.

يرى بعض المعترضين أن الحديث عن الطائفية في هذا الوقت العصيب الذي يمر به العالم الإسلامي والمطالبة بنقد الخطاب الديني المتسبب في نشر الكراهية بين المذاهب، يزيد من حدة النزاع والفرقة، وانشغال الناس بها، والرد على هذا الرأي بالقول إن الطائفية تمسي في قرارة نفوس البعض بمثابة المرض النفسي، وعلاج هذا المرض الخبيث لا يكون إلا من خلال إظهاره إلى النور والسعي في البحث عن أسبابه، فالمذاهب الإسلامية معيبة بهذا الداء الخطير الذي يفتك بالمجتمعات، فإن تركنا هذا المرض فإنه سوف يزداد ويتوسع دون علاج، والمسلمون بحاجة إلى يقظة فكرية تتمثل في النقد الديني وترسيخ التعددية حتى يستطيع المجتمع مكافحة الإرهاب.